
منذ ليلة 21 إلى 22 من فبراير الماضي، ظلت صورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تغطي كل الشاشات، في أوروبا وأمريكا الشمالية، وطبعا في روسيا وحتى في مناطق تعيش مآسي كان يفترض أن تغنيها عن متابعة أخبار شرق أوروبا.
لقد أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، الذي أصبح اسمه مرادفا لروسيا منذ مطلع الألفية الثالثة، عن اعتراف موسكو باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المعلنتين من طرف واحد، عن أوكرانيا، وهو القرار الذي كان الجميع يعلم أن له ما بعده، وأنه مجرد مقدمة لأمر جلل قد يتجاوز ما حدث بعد ذلك من زحف للقوات الروسية على أوكرانيا.
لقد كان الاعتراف وما تلاه من تحرك للقوات الروسية رسالة جديدة، وعملية هذه المرة، لتأكيد عزم موسكو على عدم السماح للحلف الأطلسي بالوصول إلى بلد "صنعه" البلاشفة قطعة قطعة حسب الرواية المفضلة لدى زعيم الكرملين.
بوتين والتاريخ
ألقى بوتين من فوق سنواته السبعين (من مواليد 1952)، خطابا طويلا، أو بالأحرى رواية تاريخية طويلة، ليلة الاعتراف بالجمهوريتين، بعضها موجه للروس وبعضها لحكام أوكرانيا وأهم جزء فيها موجه لبلدان الحلف الأطلسي.
قال بوتين إن الولايات المتحدة لا تريد وجود "مثل هذا البلد الكبير" في إشارة إلى روسيا. هذه هي الكلمات المفتاح والخيط الناظم لفهم سياسات الكرملين، ليس في الملف الأوكراني وحسب، بل منذ وصول فلاديمير بوتين إلى هرم السلطة سنة 2000، حتى وإن أوحى في سنواته الأولى في الحكم برغبة في التقرب من اتحاد أوروبي يكون أقل ارتهانا لواشنطن.
لقد تسلم ضابط المخابرات السابق بلدا شاسعا منهكا يترنح تحت أنظار الخصوم، ترنح الرجل الذي سبقه لسدة الرئاسة، بوريس يلتسين، أمام عدسات الكاميرات.
ومنذ اليوم الأول حرص بوتين على أن يبدو دائما بمظهر الرياضي الرشيق، والقوي القادر على الحركة في كل اتجاه، أي بصورة معاكسة تماما لصورة سلفه. فبين الفينة والأخرى يبث الكرملين صورا للرئيس "الجديد" وهو يمارس رياضات ومغامرات مختلفة دون أن تبدو عليه علامة تعب واحدة.
كانت الرسالة تتجاوز الشخص إلى البلاد برمتها، رسالة مفادها أن "روسيا استعادت بالفعل أنفاسها" في انتظار أن تستعيد أمجادها أو بعضا منها على الأقل.
لكن استعادة الأمجاد تفترض "تصحيح" بعضا من "أخطاء التاريخ"، وأولها تلك التي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي. فمن وجهة نظر بوتين، قدمت روسيا تنازلات غير مبررة للغرب بعد انهيار جدار برلين. إنه لا يفوت مناسبة دون أن يشير إلى مفاوضات توحيد ألمانيا، ويتهم غورباتشوف بما يشبه السذاجة في التعاطي مع المعسكر الغربي. كيف صدق غورباتشوف أن الناتو لن يتوسع شرقا؟
إنه السؤال الذي ما زال يؤرق بوتين ويرهن كل سياساته من سوريا إلى فنيزويلا مرورا بجورجيا وكازاخستان.
لقد عرف فلاديمير بوتين بالخصوص كيف يذكي الشعور القومي لدى الروس، ولا أحد اليوم في الدول الغربية التي تنتقد، عن حق حينا ومزايدة حينا آخر، سجل بوتين في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية، يذهب إلى حد المغامرة بالقول إن أغلبية الروس لا تؤيد سياسات بوتين الخارجية على الأقل، رغم أن انفعال البعض عقب اجتياح الروس لأوكرانيا دفعه إلى الحديث عن رئيس معزول عن الشعب الروسي.
السياسة بقواعد الجودو
ومع ما يبدو الآن كشد حبل بين موسكو وواشنطن، القائد الفعلي والميداني والسياسي لحلف الناتو، فإن بوتين، رجل المخابرات، يعرف أن روسيا ليست بالقوة التي تمكنها من مواجهة مستمرة ومفتوحة مع الغرب، لكن لاعب الجودو لا يراهن على قوته بقدر مراهنته على نقاط ضعف خصمه.
نعم، فبالرغم من ميل كثيرين إلى مقارنة بوتين بلاعب شطرنج وهو يمارس سياسته الخارجية، فإن رياضة الجودو تبدو الأنسب لتبسيط ما يقوم به فلادمير في السياسة والحرب.
فإذا كان لا بد من الإحالة على رياضة ما في هذا المجال المعقد، فإن بوتين بالفعل أقرب إلى حلبة الجودو منه إلى رقعة الشطرنج، والرجل يحرص في كل مناسبة على التذكير بأن هذه الرياضة أنقذته وغيرت حياته.
في رياضة الجودو يكون على اللاعب أن يحافظ على توازنه في كل لحظة مع التركيز الشديد لاقتناص اللحظة الأنسب للإمساك بالخصم. واللحظة الأنسب هي تلك التي تمكن من إلقاء المنافس أرضا بمجهود أقل. قد يستغرق الوصول إلى هذه اللحظة كثيرا من الدوران في الحلبة حتى يكاد المتابع يسأم من اللعبة واللاعبين، ثم فجأة يأتي أحد المتنافسين بالحركة الحاسمة فيمسك بخصمه.
أحيانا قد يثمر الإمساك بالخصم عن تسجيل نقاط، وأحيانا أخرى قد يتحرك الخصم في اتجاه وبقوة غير متوقعين، فيفلت من قبضة منافسه وقد ينقلب عليه.
بوتين ينثر علامات الاستفهام
هل أمسك بوتين بخصمه في الصراع الدائر في أوكرانيا؟ أم أن بوتين أفلت من قبضة خصمه في هذا الصراع ويكاد ينقلب عليه؟ أم أن بوتين فقد توازنه ويمنح خصمه فرصة للإمساك به؟ الأسابيع وربما الشهور والسنوات المقبلة وحدها ستجيب عن هذا السؤال، لكن السؤال الأكثر إثارة هو: كيف قبل الأوكرانيون أصلا بأن يجعلوا من بلدهم حلبة جودو؟، ألم يكن من الأفضل متابعة المباراة وهي تجري في حلبات أخرى قريبة أو حتى بعيدة؟
كل المحللين في الإعلام الغربي ينهون تحليلهم للعلاقات مع موسكو بمقولة تكررت حتى أصبحت "لازمة" في قصيدة المواجهة، إنها مقولة" لا أحد يعرف ما الذي يدور في رأس (خلد) بوتين؟.
هذه المقولة قد تضفي فعلا كثيرا من التشويق على "مباراة الجودو الجارية" خصوصا بالنسبة لسياسيين ومحللين ومشاهدين يعودون إلى بيوتهم آمنين في واشنطن وباريس وبرلين ولندن.
أما الجواب عن هذا السؤال فيظل صعبا صعوبة التكهن بنتيجة مباراة جودو بدون تحكيم، لكن المؤكد يبقى هو أن ما يدور "في رأس" بوتين اليوم مختلف تماما عن ما جال في خاطر غورباتشوف وهو يقبل بإعادة توحيد ألمانيا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي.
ويحرص بوتين على أن يذكر الغرب، بالقول أحيانا وبالدبابات والصواريخ حينا، بأنه ليس غورباشتوف ولسان حاله يقول "أنا لست بالسذاجة نفسها".
فهل سيذكر التاريخ فلادمير بوتين باعتباره الرجل الذي أعاد لروسيا بعض أمجادها؟ أم كلاعب جودو طالت عليه المباراة فسقط؟■