تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الوجه الآخر لكتب التنمية الذاتية

Par
هند‭ ‬الصدقي
 عندما يتحول حلم السعادة إلى عقبة ©DR
عندما يتحول حلم السعادة إلى عقبة ©DR
لو‭ ‬وجدت‭ ‬حبة‭ ‬سحرية‭ ‬تعزز‭ ‬القدرات‭ ‬العقلية‭ ‬للبشر،‭ ‬وتضمن‭ ‬لهم‭ ‬التحكم‭ ‬بذكاء‭ ‬في‭ ‬العواطف،‭ ‬وترفع‭ ‬من‭ ‬قدراتهم‭ ‬ومهاراتهم،‭ ‬لتهافت‭ ‬الناس‭ ‬عليها‭ ‬كما‭ ‬قد‭ ‬يتهافتون‭ ‬على‭ ‬إكسير‭ ‬الحياة‭. ‬فمعظم‭ ‬الناس‭ ‬باتوا‭ ‬مهووسين‭ ‬بتحسين‭ ‬نمط‭ ‬حياتهم‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬النواحي‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬المسعى‭ ‬هو‭ ‬الرأسمال‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬تستثمره‭ ‬سوق‭ ‬التحسين‭ ‬الذاتي‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تدر‭ ‬أرباحا‭ ‬طائلة‭ ‬وخاصة‭ ‬عبر‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬البشرية‭. ‬فهل‭ ‬تقدم‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬حقيقة‭ ‬وصفات‭ ‬سحرية‭ ‬للتطوير‭ ‬الذاتي؟

تذكر‭ ‬مجلة‭ "‬هارفارد‭ ‬بيزنس‭" ‬أن‭ ‬أرباح‭ ‬سوق‭ ‬صناعة‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وحدها‭ ‬نمت‭ ‬لتبلغ‭ ‬11‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬سنة‭ ‬2018،‭ ‬وأهم‭ ‬بضاعة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السوق‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية‭. ‬والمتوقع‭ ‬أن‭ ‬ترتفع‭ ‬قيمة‭ ‬هذه‭ ‬السوق‭ ‬مستقبلا،‭ ‬نظرا‭ ‬للتغير‭ ‬السريع‭ ‬لنمط‭ ‬العيش‭ ‬الذي‭ ‬تتبعه‭ ‬الغالبية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤثر‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬حياة‭ ‬كل‭ ‬شخص؛‭ ‬ليبرز‭ ‬الترويج‭ ‬لوصفات‭ ‬تحسين‭ ‬الذات‭ ‬كترياق‭ ‬وحيد‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬جميع‭ ‬المشاكل‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬السوق‭ ‬المزدهرة‭ ‬تتعدد‭ ‬عناوين‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية‭ ‬ومدارسها‭ ‬وتخصصاتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار‭ ‬المتميز‭ ‬بكثرة‭ ‬المريدين‭. ‬وتكفي‭ ‬نظرة‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬عناوين‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية‭ ‬داخل‭ ‬مكتبة،‭ ‬ليجد‭ ‬المرء‭ ‬نفسه‭ ‬وقد‭ ‬تملكه‭ ‬شك‭ ‬حول‭ ‬وجود‭ ‬قصور‭ ‬في‭ ‬جوانب‭ ‬في‭ ‬شخصيته‭ ‬أو‭ ‬حياته،‭ ‬أو‭ ‬ليتذكر‭ ‬أوجه‭ ‬هذا‭ ‬القصور‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬مقتنعا‭ ‬بوجوده‭ ‬أصلا‭. ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬تقدم‭ "‬حلولها‭" ‬الموعودة‭ ‬من‭ ‬العنوان‭ ‬وحتى‭ ‬قبل‭ ‬تقليب‭ ‬صفحاتها،‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭ ‬تحوز‭ ‬على‭ ‬اهتمام‭ ‬شريحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬القراء‭.‬

تهتم‭ ‬غالبية‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية‭ ‬بتقديم‭ ‬نظريات‭ ‬ونصائح‭ ‬سلوكية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تغيير‭ ‬العادات‭ ‬الذهنية‭ ‬والتصرفات،‭ ‬فجزء‭ ‬كبير‭ ‬منها‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬القدرات‭ ‬الذهنية‭ ‬بهدف‭ ‬تحقيق‭ ‬الكمال‭ ‬الذي‭ ‬يطمح‭ ‬إليه‭ ‬القارئ،‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬موعودا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عناوينها‭ ‬أو‭ ‬مقدماتها‭ ‬بالحياة‭ ‬السعيدة،‭ ‬وسكينة‭ ‬الأفكار،‭ ‬وتوازن‭ ‬العلاقات،‭ ‬وتحقيق‭ ‬الغنى‭ ‬الروحي‭ ‬والمادي‭.‬

مدينة‭ ‬فاضلة‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬فيها‭ ‬للفشل‭ ‬والشك‭ ‬

يتساءل‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬رمي‭ ‬جبرييل‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬بعنوان‭ "‬The self-help‭ ‬game‭" ‬باستنكار‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬هو‭ ‬تحقيق‭ ‬التطلعات‭ ‬المنشودة‭ ‬للمرء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬معجزة،‭ ‬وخصوصا‭ ‬حالة‭ ‬السعادة‭ ‬المستمرة‭ ‬والمتواصلة،‭ ‬وهو‭ ‬الموضوع‭ ‬المتكرر،‭ ‬وإن‭ ‬بصيغ‭ ‬متنوعة،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكتب،‭ ‬التي‭ ‬يصفها‭ "‬بكتب‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الشعبي‭"‬،‭ ‬أو‭ "‬بالمدينة‭ ‬الفاضلة‭ ‬للتعافي‭". ‬

ويشير‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬بعد‭ ‬تحليله‭ ‬ل40‭ ‬كتابا‭ ‬من‭ ‬الأكثر‭ ‬مبيعا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الكتب‭ ‬المنشورة‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2001؛‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬المجمل‭ ‬حول‭ ‬3‭ ‬محاور‭ ‬رئيسية‭: ‬رفع‭ ‬الكفاءة‭ ‬الذاتية،‭ ‬وإدارة‭ ‬العلاقات‭ ‬العاطفية،‭ ‬وتحقيق‭ ‬الثروة‭.‬

ويرى‭ ‬جبرييل‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أسباب‭ ‬الإقبال‭ ‬الكثيف‭ ‬على‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية،‭ ‬انسحاب‭ ‬علماء‭ ‬النفس‭ ‬والفلاسفة‭ ‬والأكادميين‭ ‬الى‭ "‬أبراجهم‭ ‬العاجية‭"‬،‭ ‬مكتفين‭ ‬باهتمام‭ ‬الطبقات‭ ‬النخبوية‭ ‬بكتاباتهم،‭ ‬ليساهموا‭ ‬بذلك‭ ‬في‭ ‬بروز‭ ‬من‭ ‬وصفهم‭ ‬بـ‭"‬مدعي‭ ‬العلم‭" ‬من‭ ‬مؤلفي‭ ‬غالبية‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية،‭ ‬مع‭ ‬ان‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬الفريقين‭ ‬واضح،‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬الأكادميين‭ ‬لا‭ ‬يعترفون‭ ‬بخطاب‭ ‬الأرواح‭ ‬والعواطف‭ ‬بل‭ ‬بالتجارب‭ ‬العلمية‭ ‬والأبحاث،‭ ‬فيما‭ ‬يتجه‭ ‬القسم‭ ‬الثاني‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬أي‭ ‬عزاء‭ ‬عاطفي‭ ‬ودغدغة‭ ‬للمشاعر‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬أرباح‭ ‬عبر‭ ‬ترويج‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭.‬

إقبال‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تخاطب‭ ‬وجدانهم‭ ‬وفق‭ ‬جبرييل‭ ‬ليس‭ ‬بالجديد،‭ ‬لاسيما‭ ‬أنهم‭ ‬يتوجهون‭ ‬منذ‭ ‬عصور‭ ‬للكتب‭ ‬المقدسة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬احتياجاتهم‭ ‬الروحية،‭ ‬خصوصا‭ ‬أنها‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الوجودية‭ ‬للبشر،‭ ‬عاطفية‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬نفسية‭ ‬وعن‭ ‬الأمل‭ ‬والشعور‭ ‬بالأمان‭.‬

جحيم‭ ‬المقارنات‭ ‬المستحيلة

الذي‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬ثابتا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية،‭ ‬هو‭ ‬كونها‭ ‬تسوق‭ ‬تجارب‭ ‬أناس‭ ‬آخرين،‭ ‬وتسرد‭ ‬قصص‭ ‬ملهمة‭ ‬لنماذج‭ ‬عاشت‭ ‬الفشل‭ ‬ثم‭ ‬تخطت‭ ‬الصعاب‭ ‬لتعيش‭ ‬حياة‭ ‬مثالية‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬البؤس‭. ‬وتقدَّم‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬سردي‭ ‬إرشادي،‭ ‬يدخل‭ ‬بعدها‭ ‬القارئ‭ ‬غالبا‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬المقارنة،‭ ‬وعوض‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬واقعه،‭ ‬ينجرف‭ ‬وراء‭ ‬مقارنة‭ ‬حياته‭ ‬بحياة‭ ‬آخرين،‭ ‬والحديث‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الكتب،‭ ‬بل‭ ‬يشمل‭ ‬التدوينات‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تصادف‭ ‬الجميع،‭ ‬وخطابات‭ ‬الإيجابية‭ ‬المفرطة‭ ‬والسعادة‭ ‬السرمدية‭ ‬المستلهمة‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬تصور‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬السعادة‭ ‬والإنجازات‭ ‬المصيرية‭ ‬وكأنها‭ ‬قرار‭ ‬لحظي،‭ ‬مما‭ ‬يلزم‭ ‬الشخص‭ ‬إن‭ ‬فشل‭ ‬في‭ ‬تحقيقها،‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬حل‭ ‬لقصور‭ ‬عقلي‭ ‬أو‭ ‬عاطفي‭ ‬مفترض‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬فإن‭ ‬مفعول‭ ‬النصائح‭ ‬والقصص‭ ‬التي‭ ‬تقدمها‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬يكون‭ ‬عكسيا‭ ‬على‭ ‬القارئ،‭ ‬الذي‭ ‬يقارن‭ ‬نفسه‭ ‬بقصص‭ ‬الناجحين،‭ ‬وواقعه‭ ‬الصعب‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬بواقع‭ ‬أشخاص‭ ‬آخرين‭ ‬لهم‭ ‬تفاصيل‭ ‬حيوات‭ ‬أخرى‭ ‬وظروف‭ ‬مختلفة‭ ‬تماما‭. ‬والقول‭ ‬إن‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية‭ ‬تصور‭ ‬تحقيق‭ ‬الانجازات‭ ‬كقرار‭ ‬لحظي،‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬التغيير‭ ‬أو‭ ‬تحقيق‭ ‬الطموحات‭ ‬مستحيل،‭ ‬بل‭ ‬المشكل‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬تصوير‭ ‬مسار‭ ‬الإنجازات‭ ‬وسبل‭ ‬التغيير‭ ‬بشكل‭ ‬واقعي؛‭ ‬فالتغيير‭ ‬ممكن‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬لكن‭ ‬التغيير‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬بين‭ ‬عشية‭ ‬وضحاها،‭ ‬وتحقيق‭ ‬الأهداف‭ ‬ممكن‭ ‬أيضا،‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬واقعيا‭ ‬بشأنها،‭ ‬وجديا‭ ‬في‭ ‬سعيه‭ ‬نحوها‭ ‬مع‭ ‬استحضار‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬ليست‭ ‬زهرية‭ ‬يسيرة‭ ‬على‭ ‬الدوام‭. ‬عدا‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النصائح‭ ‬الفضفاضة‭ ‬قد‭ ‬تشكل‭ ‬عبء‭ ‬ثقيلا‭ ‬على‭ ‬قارئ‭ ‬يطمح‭ ‬لأن‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬لواقع‭ ‬مأزوم،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يضيف‭ ‬لصراعاته‭ ‬الداخلية‭ ‬صراعا‭ ‬نفسيا‭ ‬جديدا‭.‬

 

عندما‭ ‬يتحول‭ ‬حلم‭ ‬السعادة‭ ‬إلى‭ ‬عقبة‭ ‬كأداء‭ ‬

 

وبهذا‭ ‬الخصوص‭ ‬يؤكد‭ ‬الباحث‭ ‬وأستاذ‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬ألبورغ‭ ‬الدنماركية‭ ‬سفند‭ ‬برينكمان‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬صحافي،‭ ‬أن‭ ‬السعادة‭ ‬ليست‭ ‬ببساطة‭ ‬الاستجابة‭ ‬المناسبة‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬مؤكدا‭ ‬أن‭ ‬الأفكار‭ ‬والعواطف‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تُعكس‭ ‬للعالم‭ ‬بشكل‭ ‬حقيقي‭ ‬وكما‭ ‬هي،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬مساحة‭ ‬للأفكار‭ ‬والمشاعر‭ ‬السلبية‭ ‬لأنها‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬نفهم‭ ‬بها‭ ‬العالم،‭ ‬فمع‭ ‬السماح‭ ‬فقط‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬أفكار‭ ‬إيجابية،‭ ‬يمكن‭ ‬لبعض‭ ‬الحقائق‭ ‬المأساوية‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬أن‭ ‬تصدم‭ ‬المرء‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬المعتاد‭.‬

ويضيف‭ ‬برينكمان‭ ‬أن‭ ‬المشكلة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بكتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية،‭ ‬ومحاولة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬التصرفات‭ ‬والمشاعر‭ ‬دوما‭ ‬مشرقة،‭ ‬لكن‭ ‬المشكلة‭ ‬هو‭ ‬عندما‭ ‬تصبح‭ ‬السعادة‭ ‬إجبارية‭ ‬أو‭ ‬ضرورية؛‭ ‬كأن‭ ‬يكون‭ ‬الإصرار‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬العمل‭ ‬مثلا‭ ‬على‭ ‬التركيز‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬النمو‭ ‬الإيجابي‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬الصعوبات‭ ‬الحقيقية‭. ‬ويذهب‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬تشبيه‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬سعادة‭ ‬الموظف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬بـ‭ "‬التحكم‭ ‬في‭ ‬التفكير‭"‬،‭ ‬مؤكدا‭ ‬أن‭ ‬المشكل‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬للبهجة‭ ‬باستمرار،‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬عزل‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬مشاعره‭ ‬الحقيقية‭.‬

ويؤكد‭ ‬برينكمان‭ ‬أن‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬ترمي‭ ‬إلى‭ ‬تعليم‭ ‬الناس‭ ‬كيفية‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬السعادة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشجع‭ ‬منظورا‭ ‬ضارا‭ ‬للمشاعر،‭ ‬مع‭ ‬تسويقها‭ ‬فكرة‭ ‬أساسية‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬بالسعادة‭ ‬وكأن‭ ‬غير‭ ‬السعداء‭ ‬مسؤولون‭ ‬عن‭ ‬محنهم‭. ‬كما‭ ‬يوضح‭ ‬برينكمان‭ ‬أهمية‭ ‬المشاعر‭ ‬السلبية‭ ‬ودورها‭ ‬الصحي‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬العالم‭ ‬والتفاعل‭ ‬معه،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الشعور‭ ‬بالذنب‭ ‬والعار‭ ‬ضروريان‭ ‬لاستشعار‭ ‬الأخلاق،‭ ‬والغضب‭ ‬رد‭ ‬مشروع‭ ‬على‭ ‬الظلم،‭ ‬كما‭ ‬يساعد‭ ‬الحزن‭ ‬على‭ ‬معالجة‭ ‬المأساة،‭ ‬والسعادة‭ ‬أيضا‭ ‬عظيمة‭ ‬ومهمة‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬الدوام‭.‬

عدم‭ ‬رضا‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬واقعه،‭ ‬أو‭ ‬طموحه‭ ‬نحو‭ ‬التميز‭ ‬وتطوير‭ ‬ذاته،‭ ‬ووعيه‭ ‬بضرورة‭ ‬التغيير،‭ ‬خطوة‭ ‬مهمة‭ ‬وضرورية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أي‭ ‬تغيير‭ ‬للأفضل‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬عند‭ ‬تصفح‭ ‬أغلب‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية،‭ ‬التي‭ ‬تسوَّق‭ ‬وكأنها‭ ‬الشعلة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬التغيير‭ ‬نحو‭ ‬الأفضل،‭ ‬لن‭ ‬يجد‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬سوى‭ ‬طرقا‭ ‬مختصرة‭ ‬ومحدودة‭ ‬للتغيير،‭ ‬كنصح‭ ‬القارئ‭ ‬بتغيير‭ ‬صفة‭ ‬واحدة‭ ‬أو‭ ‬عادة‭ ‬معينة‭ ‬بالإرادة‭ ‬السريعة‭ ‬لا‭ ‬بالتدرج‭ ‬مثلا،‭ ‬أو‭ ‬اتباع‭ ‬إجراء‭ ‬معين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬الغنى‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬سنة‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬أشهر‭. ‬كما‭ ‬تعمد‭ ‬هذه‭ ‬الوصفات‭ ‬المكتوبة‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬تبسيط‭ ‬الواقع‭ ‬والمشاكل‭ ‬بقدر‭ ‬يشعر‭ ‬القارئ‭ ‬بالإحباط‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬عدم‭ ‬نجاحه‭ ‬في‭ ‬استشعار‭ ‬هذه‭ ‬البساطة‭ ‬غير‭ ‬الواقعية،‭ ‬وبخيبة‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ارتفاع‭ ‬سقف‭ ‬توقعاته‭.‬

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الطرق‭ ‬السهلة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬إيجابية‭ ‬أحيانا‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬القصير‭ ‬لكنها‭ ‬قد‭ ‬تجعل‭ ‬الشخص‭ ‬أكثر‭ ‬كسلا‭ ‬تجاه‭ ‬اعتماد‭ ‬تغييرات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬لأنها‭ ‬تتطلب‭ ‬وقتا‭ ‬أطول‭ ‬ومجهودا‭ ‬أكبر‭. ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬يمكن‭ ‬لنصائح‭ ‬معظم‭ ‬كتب‭ ‬التطوير‭ ‬الذاتي‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬الإنسان‭ ‬أسوأ،‭ ‬والمشكل‭ ‬الأكبر‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬تدفع‭ ‬المرء‭ ‬للاستغناء‭ ‬عن‭ ‬طلب‭ ‬المساعدة‭ ‬من‭ ‬المختصين‭. ‬فعوض‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬المعالجين‭ ‬السلوكيين‭ ‬ومختصي‭ ‬علم‭ ‬النفس،‭ ‬أو‭ ‬أصحاب‭ ‬الخبرة‭ ‬والتجربة،‭ ‬يتم‭ ‬التوجه‭ ‬لهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتب،‭ ‬التي‭ ‬أضحت‭ ‬تروج‭ ‬أيضا‭ ‬للمساعدة‭ ‬الذاتية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحسين‭ ‬الصحة‭ ‬العقلية‭ ‬والنفسية‭. ‬فهل‭ ‬من‭ ‬المنطقي‭ ‬أن‭ ‬يشفى‭ ‬المصاب‭ ‬بمرض‭ ‬نفسي،‭ ‬أو‭ ‬بالقلق‭ ‬الاجتماعي‭ ‬أو‭ ‬بصدمات‭ ‬نفسية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نصائح‭ ‬كاتب‭ ‬غير‭ ‬مختص‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال؟

 

التغيير‭ ‬مجهود‭ ‬متواصل‭ ‬

 

يرى‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬رمي‭ ‬جبرييل‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬الإفراط‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حل‭ ‬المشاكل‭ ‬هو‭ ‬إفراط‭ ‬في‭ ‬المثالية،‭ ‬معتبرا‭ ‬أن‭ "‬كتب‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الشعبي‭" ‬تبث‭ ‬رسائل‭ ‬حول‭ ‬إمكانية‭ ‬التغلب‭ ‬على‭ ‬العقبات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الإرادة‭ ‬الحرة‭ ‬للذات،‭ ‬مع‭ ‬تركيزها‭ ‬حصرا‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬سيادته‭ ‬الذاتية،‭ ‬بينما‭ ‬تتجاهل‭ ‬باقي‭ ‬العوامل‭ ‬الأخرى‭ ‬المصيرية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الشخص‭ ‬كالفقر،‭ ‬والصراعات‭ ‬الأسرية‭ ‬أو‭ ‬الإقصاء‭ ‬السياسي‭. ‬ويؤكد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬الشخص‭ ‬أن‭ ‬يعيه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬إتقانه‭ ‬أي‭ ‬مهارة‭ ‬أو‭ ‬عادة‭ ‬وتحكمه‭ ‬في‭ ‬توازن‭ ‬حياته‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر‭ ‬يحتاج‭ ‬تعلم‭ ‬الأساسيات‭ ‬والمهارات‭ ‬من‭ ‬المختصين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يستغرق‭ ‬وقتا‭ ‬أطول،‭ ‬ويتطلب‭ ‬مجهودا‭ ‬أكبر‭ ‬وأكثر‭ ‬صرامة‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬العوامل‭ ‬الباطنية‭ ‬وإبطال‭ ‬العادات‭ ‬الذهنية‭ ‬السيئة‭. ‬فـ‭"‬كتب‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الشعبي‭" ‬تحقق‭ ‬للإنسان‭ ‬أحيانا،‭ ‬حسب‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬النفس،‭ ‬نشوة‭ ‬مؤقتة‭ ‬وتشحذ‭ ‬أمله‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬يتجاهل‭ ‬معها‭ ‬احتمالات‭ ‬الإخفاق‭ ‬القائمة‭.‬

ووفق‭ ‬تحليل‭ ‬جبرييل‭ ‬فإنه‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬التوجه‭ ‬نحو‭ ‬قراءة‭ ‬كتب‭ ‬التطوير‭ ‬الذاتي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬موجها‭ ‬ومدروسا،‭ ‬واختيار‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قائما‭ ‬على‭ ‬التساؤل‭ ‬حول‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬سيقدمه‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬مهارات‭ ‬واقعية،‭ ‬ونصائح‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الاختصاص‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬يصفون‭ ‬أنفسهم‭ "‬بالمدربين‭" ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تخصص‭ ‬أكاديمي‭ ‬أو‭ ‬بحوث‭ ‬علمية‭.‬

 

وقد‭ ‬أثبتت‭ ‬التجارب‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بالفعل‭ ‬أن‭ ‬التميز‭ ‬والنجاح‭ ‬عمل‭ ‬شاق،‭ ‬وأن‭ ‬التغير‭ ‬مرهق،‭ ‬فلو‭ ‬كان‭ ‬سهلا‭ ‬لتغير‭ ‬الجميع،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬يسيرا‭ ‬لما‭ ‬عانى‭ ‬الناجحون‭ ‬وهم‭ ‬عادة‭ ‬ممن‭ ‬لا‭ ‬يقرؤون‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬بل‭ ‬يجهدون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحويل‭ ‬أفكارهم‭ ‬وأحلامهم‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬قائم‭ ‬وملموس‭.‬