
تذكر مجلة "هارفارد بيزنس" أن أرباح سوق صناعة التنمية الذاتية في الولايات المتحدة وحدها نمت لتبلغ 11 مليار دولار سنة 2018، وأهم بضاعة في هذه السوق كتب التنمية الذاتية. والمتوقع أن ترتفع قيمة هذه السوق مستقبلا، نظرا للتغير السريع لنمط العيش الذي تتبعه الغالبية، وهو ما يؤثر على عدم التوازن بين مكونات حياة كل شخص؛ ليبرز الترويج لوصفات تحسين الذات كترياق وحيد قادر على حل جميع المشاكل. وفي هذه السوق المزدهرة تتعدد عناوين كتب التنمية الذاتية ومدارسها وتخصصاتها في هذا المضمار المتميز بكثرة المريدين. وتكفي نظرة واحدة على عناوين كتب التنمية الذاتية داخل مكتبة، ليجد المرء نفسه وقد تملكه شك حول وجود قصور في جوانب في شخصيته أو حياته، أو ليتذكر أوجه هذا القصور إن كان مقتنعا بوجوده أصلا. إن هذه الكتب تقدم "حلولها" الموعودة من العنوان وحتى قبل تقليب صفحاتها، ما يجعلها تحوز على اهتمام شريحة كبيرة من القراء.
تهتم غالبية كتب التنمية الذاتية بتقديم نظريات ونصائح سلوكية من أجل تغيير العادات الذهنية والتصرفات، فجزء كبير منها يعتمد على التحكم في القدرات الذهنية بهدف تحقيق الكمال الذي يطمح إليه القارئ، الذي يكون موعودا من خلال عناوينها أو مقدماتها بالحياة السعيدة، وسكينة الأفكار، وتوازن العلاقات، وتحقيق الغنى الروحي والمادي.
مدينة فاضلة لا مكان فيها للفشل والشك
يتساءل أستاذ علم النفس رمي جبرييل في مقال بعنوان "The self-help game" باستنكار حول ما إذا كان الهدف من هذه الكتب هو تحقيق التطلعات المنشودة للمرء من خلال معجزة، وخصوصا حالة السعادة المستمرة والمتواصلة، وهو الموضوع المتكرر، وإن بصيغ متنوعة، في هذه الكتب، التي يصفها "بكتب علم النفس الشعبي"، أو "بالمدينة الفاضلة للتعافي".
ويشير أستاذ علم النفس بعد تحليله ل40 كتابا من الأكثر مبيعا في مجال التنمية الذاتية في الولايات المتحدة، مع التركيز على الكتب المنشورة منذ عام 2001؛ إلى أنها تدور في المجمل حول 3 محاور رئيسية: رفع الكفاءة الذاتية، وإدارة العلاقات العاطفية، وتحقيق الثروة.
ويرى جبرييل أن من بين أسباب الإقبال الكثيف على كتب التنمية الذاتية، انسحاب علماء النفس والفلاسفة والأكادميين الى "أبراجهم العاجية"، مكتفين باهتمام الطبقات النخبوية بكتاباتهم، ليساهموا بذلك في بروز من وصفهم بـ"مدعي العلم" من مؤلفي غالبية كتب التنمية الذاتية، مع ان الفرق بين الفريقين واضح، كما يقول، وهو أن الأكادميين لا يعترفون بخطاب الأرواح والعواطف بل بالتجارب العلمية والأبحاث، فيما يتجه القسم الثاني إلى تقديم أي عزاء عاطفي ودغدغة للمشاعر من أجل تحقيق أرباح عبر ترويج هذه الأفكار.
إقبال الناس على هذا النوع من الكتب التي تخاطب وجدانهم وفق جبرييل ليس بالجديد، لاسيما أنهم يتوجهون منذ عصور للكتب المقدسة من أجل احتياجاتهم الروحية، خصوصا أنها تتحدث عن الاحتياجات الوجودية للبشر، عاطفية كانت أو نفسية وعن الأمل والشعور بالأمان.
جحيم المقارنات المستحيلة
الذي يكاد يكون ثابتا في كل كتب التنمية الذاتية، هو كونها تسوق تجارب أناس آخرين، وتسرد قصص ملهمة لنماذج عاشت الفشل ثم تخطت الصعاب لتعيش حياة مثالية خالية من البؤس. وتقدَّم هذه القصص في قالب سردي إرشادي، يدخل بعدها القارئ غالبا في دوامة المقارنة، وعوض أن يعيش واقعه، ينجرف وراء مقارنة حياته بحياة آخرين، والحديث هنا لا يقتصر على الكتب، بل يشمل التدوينات التي باتت تصادف الجميع، وخطابات الإيجابية المفرطة والسعادة السرمدية المستلهمة من كتب التنمية الذاتية التي تصور في الغالب السعادة والإنجازات المصيرية وكأنها قرار لحظي، مما يلزم الشخص إن فشل في تحقيقها، بالبحث عن حل لقصور عقلي أو عاطفي مفترض.
في هذه الحالة فإن مفعول النصائح والقصص التي تقدمها هذه الكتب يكون عكسيا على القارئ، الذي يقارن نفسه بقصص الناجحين، وواقعه الصعب التغيير في كثير من الأحيان، بواقع أشخاص آخرين لهم تفاصيل حيوات أخرى وظروف مختلفة تماما. والقول إن كتب التنمية الذاتية تصور تحقيق الانجازات كقرار لحظي، لا يعني أن التغيير أو تحقيق الطموحات مستحيل، بل المشكل يكمن في عدم تصوير مسار الإنجازات وسبل التغيير بشكل واقعي؛ فالتغيير ممكن بطبيعة الحال، لكن التغيير الحقيقي لا يحدث بين عشية وضحاها، وتحقيق الأهداف ممكن أيضا، لكن على المرء أن يكون واقعيا بشأنها، وجديا في سعيه نحوها مع استحضار أن الحياة ليست زهرية يسيرة على الدوام. عدا ذلك فإن الكثير من النصائح الفضفاضة قد تشكل عبء ثقيلا على قارئ يطمح لأن يحصل على حل لواقع مأزوم، لا أن يضيف لصراعاته الداخلية صراعا نفسيا جديدا.
عندما يتحول حلم السعادة إلى عقبة كأداء
وبهذا الخصوص يؤكد الباحث وأستاذ علم النفس في جامعة ألبورغ الدنماركية سفند برينكمان في حوار صحافي، أن السعادة ليست ببساطة الاستجابة المناسبة لكثير من المواقف في الحياة، مؤكدا أن الأفكار والعواطف يجب أن تُعكس للعالم بشكل حقيقي وكما هي، ويجب أن تكون هناك مساحة للأفكار والمشاعر السلبية لأنها الطريقة التي نفهم بها العالم، فمع السماح فقط بالحصول على أفكار إيجابية، يمكن لبعض الحقائق المأساوية في الحياة أن تصدم المرء بشكل أكبر من المعتاد.
ويضيف برينكمان أن المشكلة ليست في الاستمتاع بكتب التنمية الذاتية، ومحاولة أن تكون التصرفات والمشاعر دوما مشرقة، لكن المشكلة هو عندما تصبح السعادة إجبارية أو ضرورية؛ كأن يكون الإصرار في مكان العمل مثلا على التركيز فقط على النمو الإيجابي بدلا من دراسة الصعوبات الحقيقية. ويذهب الباحث في علم النفس إلى حد تشبيه الإصرار على سعادة الموظف في هذه الحالة بـ "التحكم في التفكير"، مؤكدا أن المشكل مع هذا النوع من الكتب التي تدعو للبهجة باستمرار، هو أنها تتسبب في عزل الإنسان عن العديد من مشاعره الحقيقية.
ويؤكد برينكمان أن كتب التنمية الذاتية التي ترمي إلى تعليم الناس كيفية العثور على السعادة يمكن أن تشجع منظورا ضارا للمشاعر، مع تسويقها فكرة أساسية مفادها أن أي شخص يمكن أن يشعر بالسعادة وكأن غير السعداء مسؤولون عن محنهم. كما يوضح برينكمان أهمية المشاعر السلبية ودورها الصحي في فهم العالم والتفاعل معه، إذ أن الشعور بالذنب والعار ضروريان لاستشعار الأخلاق، والغضب رد مشروع على الظلم، كما يساعد الحزن على معالجة المأساة، والسعادة أيضا عظيمة ومهمة لكن ليس على الدوام.
عدم رضا الإنسان عن واقعه، أو طموحه نحو التميز وتطوير ذاته، ووعيه بضرورة التغيير، خطوة مهمة وضرورية من أجل أي تغيير للأفضل غير أنه عند تصفح أغلب كتب التنمية الذاتية، التي تسوَّق وكأنها الشعلة في مسار التغيير نحو الأفضل، لن يجد الباحث عن السعادة في الغالب سوى طرقا مختصرة ومحدودة للتغيير، كنصح القارئ بتغيير صفة واحدة أو عادة معينة بالإرادة السريعة لا بالتدرج مثلا، أو اتباع إجراء معين من أجل تحقيق الغنى في غضون سنة أو ربما أشهر. كما تعمد هذه الوصفات المكتوبة في أحيان أخرى إلى تبسيط الواقع والمشاكل بقدر يشعر القارئ بالإحباط في حال عدم نجاحه في استشعار هذه البساطة غير الواقعية، وبخيبة أمل في ظل ارتفاع سقف توقعاته.
الحقيقة أن هذه الطرق السهلة قد تكون إيجابية أحيانا على المدى القصير لكنها قد تجعل الشخص أكثر كسلا تجاه اعتماد تغييرات أخرى في حياته لأنها تتطلب وقتا أطول ومجهودا أكبر. من هذا المنطلق يمكن لنصائح معظم كتب التطوير الذاتي أن تجعل الإنسان أسوأ، والمشكل الأكبر هو أنها تدفع المرء للاستغناء عن طلب المساعدة من المختصين. فعوض اللجوء إلى المعالجين السلوكيين ومختصي علم النفس، أو أصحاب الخبرة والتجربة، يتم التوجه لهذا النوع من الكتب، التي أضحت تروج أيضا للمساعدة الذاتية من أجل تحسين الصحة العقلية والنفسية. فهل من المنطقي أن يشفى المصاب بمرض نفسي، أو بالقلق الاجتماعي أو بصدمات نفسية من خلال نصائح كاتب غير مختص في هذا المجال؟
التغيير مجهود متواصل
يرى أستاذ علم النفس رمي جبرييل من جهة أخرى أن الإفراط في التفكير من أجل حل المشاكل هو إفراط في المثالية، معتبرا أن "كتب علم النفس الشعبي" تبث رسائل حول إمكانية التغلب على العقبات من خلال الإرادة الحرة للذات، مع تركيزها حصرا على دور الفرد في تحقيق سيادته الذاتية، بينما تتجاهل باقي العوامل الأخرى المصيرية في حياة الشخص كالفقر، والصراعات الأسرية أو الإقصاء السياسي. ويؤكد أن ما يجب على الشخص أن يعيه هو أن إتقانه أي مهارة أو عادة وتحكمه في توازن حياته بشكل أكبر يحتاج تعلم الأساسيات والمهارات من المختصين، وهو ما يستغرق وقتا أطول، ويتطلب مجهودا أكبر وأكثر صرامة من مجرد التحكم في العوامل الباطنية وإبطال العادات الذهنية السيئة. فـ"كتب علم النفس الشعبي" تحقق للإنسان أحيانا، حسب أستاذ علم النفس، نشوة مؤقتة وتشحذ أمله إلى درجة يتجاهل معها احتمالات الإخفاق القائمة.
ووفق تحليل جبرييل فإنه يمكن القول إن التوجه نحو قراءة كتب التطوير الذاتي يجب أن يكون موجها ومدروسا، واختيار هذه الكتب يجب أن يكون قائما على التساؤل حول حقيقة ما سيقدمه هذا الكتاب من مهارات واقعية، ونصائح من أهل الاختصاص وليس من كتاب يصفون أنفسهم "بالمدربين" دون أي تخصص أكاديمي أو بحوث علمية.
وقد أثبتت التجارب على الأرض بالفعل أن التميز والنجاح عمل شاق، وأن التغير مرهق، فلو كان سهلا لتغير الجميع، ولو كان يسيرا لما عانى الناجحون وهم عادة ممن لا يقرؤون هذه الكتب بل يجهدون من أجل تحويل أفكارهم وأحلامهم إلى واقع قائم وملموس.