تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

المانغا والأنمي.. قوة اليابان الناعمة

Par
زكرياء بلعباس
=
مجموعة ليست بقليلة من الشباب المغربي حملت معها حب الرسوم المتحركة اليابانية إلى سنّ الشباب، وجعلت من مشاهدة الأنمي وقراءة قصص المانغا اللتان تمثلان جزءاً مهماً من الثقافة اليابانية المعاصرة، -جعلتها- هواية يومية مفضلة تمارس باستمرار بعيدًا عن الأفلام والمسلسلات الواقعية.

“لن أيأس أبدا لن أستسلم سأخلص الحلبة من كل الشرور".. هكذا نتذكر المقولة الشهيرة الخاصة بمسلسل النمر المقنع الذي انتشر في كافة دول العالم العربي في الثمانينات والتسعينات. فمن منا ينسى الكابتن ماجد أو فولترون أو جريندايزر وكذلك ماوكلي وغيرها من مسلسلات الأطفال في ذلك الوقت التي عُرفت أيضا بمسلسلات الكرتون التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر في القناة الأولى المغربية عندما كانت تبث تحت اسم الإذاعة والتلفزة المغربية (اتم).
قد يظن العديد من الناس أن هذه المسلسلات الكرتونية وفق وجهة نظرهم القاصرة على أنها مجرد رسوم متحركة للأطفال مفعمة بالحركة تحتوي على شخصيات محبوبة، لكن ما يخفى عنهم أن هذه المسلسلات التي تنتجها اليابان، والتي تعرف عالميا باسم "الأنمي" وهذا لاختلافها عن الرسوم المتحركة الغربية، أصبحت صناعة تدر على شركات الإنتاج مليارات الدولارات سنويا وتعد واحدة من أكثر الفنون العصرية تميزا تستخدم كوسيلة لنقل ثقافة المجتمع الذي يقوم بإنتاجها.

عندما تصبح المانغا في كل مكان

سواء كانت هذه المسلسلات حاضرة في كلمات مشاهير الراب من قبيل دامسو أو ميتر جيمس، أو على منصة نتفليكس (Netflix) حيث يشاهدها جمهور عريض لا تتوقف عند صغار السن بل وتمتد للكبار أيضًا، أو حتى على الوشوم الخلفية لنجم كرة القدم البرازيلية نيمار، فإن هذه الثقافة أصبحت موجودة في كل مكان. فقد أصبح من السهل اليوم شراء بعض مجلات القصص المصورة اليابانية المعروفة بـ"المانغا" وأشهرها مجلة تدعى شونين جمب (Shonen Jump)، والعثور عليها في أغلب المراكز التجارية والأسواق المغربية.
يقول أحد بائعي هذه المجلات في باب الحد بالرباط: "يمكن الحصول على آخر نسخة من مغامرات وان بيس (One Piece) الأسبوعية عند إصدارها في اليابان بعد مرور أيام فقط وذلك للإقبال الكثيف الذي تعرفه قصص المانغا". فـ"وان بيس" الذي يحكي قصة بطل يريد أن يصير زعيما للقراصنة، أصبحت من بين العديد من المانغا المطبوعة بالأبيض والأسود والمرسومة بشخوصها وأسلوبها الفريد التي تلقى إقبالا كثيفا لدى الشباب والأطفال المغاربة.
تؤكد الطفلة ليلى التي تتابع بلهفة هذه المسلسلات والبالغة من العمر تسع سنوات، أن المانغا أصبحت "موضة"، مضيفة أنه "وقبل عامين، لم نتحدث عن ذلك على الإطلاق في المدرسة".
لكن اليوم، حسب رأيها، أصبح الجميع يعرفون أنمي "أكاديميتي للأبطال" (My Hero Academia) أو "الهجوم على العمالقة" (Attack on Titan) قبل أن تتسرع في تبرير نفسها وتقول: "على الرغم من أنني ما زلت صغيرة جدًا بحيث لا يُسمح لي بمشاهدتها أو قراءة قصصها".
وتعرف ساحة الفسحة المتواجدة بمدرسة الطفلة ليلى في وقت الاستراحة جلسات يتناغم فيها المتخصصون الصغار ويتدارسون فيها خبايا وأغوار كل من "وان بيس" والنينجا "ناروتو" (Naruto). والأدهى من ذلك تتحول هذه الجلسات لشجارات عدوانية ممزوجة بنوع من الهمة والسعادة: فمن من هذين البطلين سيفوز في مباراة خيالية؟ المحارب الشجاع سون غوكو بطل "دراغون بول" (Dragon Ball) التي طبعت مغامراته ذاكرة أجيال متعاقبة أم البطل سايتاما في سلسلة "وان بنش مان" (One Punch Man)، الرجل الذي اشتهر بكونه ينهي أعداءه بلكمة واحدة خارقة؟
ومن جهته، يشارك المراهق إلياس البالغ من العمر 16 سنة والذي يعشق أنمي "مغامرات جوجو العجيبة"
(Jojo's Bizarre Adventure) هذا الشغف تجاه المانغا. وحتى نعرف مدى شهرة وتأثير هذه المسلسلات يكفي دخول الثانوية التي يرتادها، وسنجد أن العديد من زملائه يرتدون قمصان أو كنزات مستوحاة من شخصيات مشهورة من الأنمي والكوميكس الأمريكية، كما تحتوي حافظات هواتفهم الذكية على صور أشهر أبطال الأنمي الذين تركوا لدى العديد من المراهقين أثرًا عميقًا.
وحسب رأي أمين البدوي، الخبير في ألعاب الفيديو وعاشق انمي بيرسيرك (السياف الأسود)، تتناسب الأنمي اليابانية مع مختلف الفئات العمرية، فهي ليست وسيلة ترفيهية فحسب، بل هي مجموعة من الأعمال الفنّية المتكاملة التي تدمج بين المتعة السمعيّة والبصرية والفكرية في قالب فريد.
ويلفت أمين النظر إلى أن من أعظم ما أنتجته اليابان على مستوى العالم هو "مذكرة الموت" (Death note)، حيث توصل أحداثها العديد من الرسائل الإنسانية للمشاهدين عن الطمع كصفة بشرية، والخلاف على معايير الخير والشر بين شخصيتين رئيسيتين التي يدافع كل منهما عن رؤيته الخاصة لتحقيق العدالة في المجتمع.
ففي هذا الأنمي الذي بقيت هوية مؤلفه غير معروفة، الشخصية الأولى هي لايت ياغامي الملقب بـ"كيرا" (القاتل الياباني) وصاحب مذكرة الموت الذي يرى أن العالم الذي نعيش فيه مليء بالجريمة ووجب تطهيره من المجرمين الذين يعيثون فسادا في الأرض ليكتب أسمائهم في المذكرة ويفرض عدالته الخاصة. أما الشخصية الثانية، المحقق "L" يرى أن كيرا يجسد الشر المطلق مدافعا عن العدالة التي نعرفها اليوم في هيئاتنا القانونية: لا يمكن ارتكاب الجرائم والإفلات من العقاب ولو كانت من أجل عمل الخير، فالغاية لا تبرر أبدا الوسيلة. وحسب أمين، هذا هو النوع من الأعمال الفنية الذي يجعل من السهل إيصال رسائل واضحة للمشاهد.

من إرث ياباني إلى صناعة مربحة

تعد المانغا باليابان إرثا قديما أعيد إحياؤه بعد الحرب العالمية الثانية. وبدأت في تحقيق رواج تجاري كبير بين القراء اليابانيين المحليين منذ منتصف القرن العشرين، وهو الرواج الذي استمر في الصعود حتى بلغت مبيعات كتب المانغا في اليابان نحو سبعة مليارات دولار سنة 1995. وقد تحولت بعد ذلك المانغا إلى صناعة ثقافية تدر على شركات الإنتاج مليارات الدولارات سنويا، تجاوزت خمسة مليارات دولار سنة 2020 بحسب موقع ستاتيستا للإحصاءات. فمن أحدث ثورة وتغيير غير مسبوقين في عوالم المانغا والأنمي هو رجل واحد يسمى تيزوكا أوسامو (Tezuka Osamu).
في أواخر الستينيات، وصف هذا الفنان العبقري الراحل الذي اشتهر بإنتاجه في حياته أكثر من 700 قصة مانغا تتضمن 150,000 صفحة من الفن المرسوم باليد، المانغا بكونها فن شامل يسعى إلى التأكيد على جمال التفاصيل. ومن بين أقواله الشهيرة حولها: "المانغا شعور، مقاومة، غرابة، شفقة، دمار، غطرسة، حب، هزل، قوة.. لا يمكن حصر المانغا في تعريف واحد". ولتحليل هذه المقولة الشهيرة عند رسامي قصص المانغا أو "المانجاكا"، يبرز توشيميتسو كاواناكا (Kawanaka Toshimitsu)، رئيس قسم المانغا بجامعة كوبي ديزاين الدولية باليابان أن لدى أوسامو تيزوكا تأثير كبير على الثقافة الشعبية اليابانية وتطور فن المانغا خلال السنوات السابقة، حيث كان لديه الفضل في استغلال المأساة كنوع أدبي في أعماله الفنية.
ويضيف الأستاذ في حوار مع مجلة BAB، أنه وقبل ظهور أعمال أوسامو، لم يكن بمقدور المانغا اليابانية تصوير المأساة بما فيه الكفاية لتصبح حقيقة تؤثر في النفس تأثيرًا ممتعًا ونافعًا، وذلك نظرًا لكون الجمهور المستهدف هم الأطفال، مشيرا إلى أن إدخال تيزوكا الذي يلقب عادةً بـ"والت ديزني اليابان" لعنصر المأساة في أعماله الفنية، مهد الطريق للأجيال القادمة من المانغاجا لتصوير وكتابة قصص درامية بارعة.
وبالتالي، حسب رأيه، تم ابتكار العديد من الشخصيات الوهمية ذات الخلفيات "المأساوية" أو "الكوميدية" يجعلها سهلة الفهم وتكون أكثر تأثيرًا من الشخصيات الحقيقية، والتي حققت قصص المانغا اليابانية بفضلها شهرة عالمية، وهذا ما جعل سحر هذه الشخصيات هو سبب جذب المانغا للعديد من القراء حول العالم.
وبعد أن شدد على الطابع "التجريدي" الذي يتميز به كل من الأنمي والمانغا كنقاط قوة وسبب الشهرة العالمية، يفسر الأستاذ الياباني هذا الطابع بكونه يعتمد على ترميز شخصيات هذه الأعمال الفنية وتجريدها من الخلفية الاجتماعية والثقافية المحددة لها، مما يجعل متابعيها يشهدون "الطبيعة الحقيقية" للشخصيات، وهو عكس ما تقوم به الأفلام والمسلسلات الواقعية التي تجعل من المحتم أن يؤثر مظهر الشخصيات ذوي الخلفية الاجتماعية والثقافية سواء كانت آسيوية، أفريقية أو أوروبية، على القراء والمشاهدين.

القرصنة والدخل المتدني

وحول مدى استدامة هذه الصناعة في المستقبل، توجد عدة أقسام جامعية في اليابان كالتي يعمل فيها الأستاذ كاواناكا تهدف لتدريس الطلاب فن الإبداع لمعالجة أبرز سلبيّات المجتمع ونقاط ضعفه بأسلوب بعيد كل البعد عن المواعظ وتلقينهم فن الاستمتاع بالمانغا والأنمي كشكل من أشكال الثقافة والفن يبدع فيها المانغاجا طوال حياته.
ووفق الأستاذ كاواناكا، يوجد في اليابان العديد من فناني المانغا ورسامي الأنمي المتميزين، لكن بيئتهم المعيشية ليست ملائمة. ففي حالة المانغا، حسب المتحدث، سهلت التطورات التكنولوجية الأخيرة عملية قرصنة المانغا وازديادها المهول في جميع أنحاء العالم، مضيفا أنه من المستحيل على المانغاكا كيفما كانت جودة أعمالهم الفنية، كسب لقمة العيش إذا انخفض دخلهم بشكل كبير بسبب التوزيع المجاني لنسخ المانغا الغير المرخصة.
وفي هذا الصدد، يؤكد الأستاذ كاواناكا أن القرصنة تشكل إزعاجا كبيراً لصناعة المانغا في اليابان رغم الجهود المبذولة والتي ما زالت غير كافية لردع هذه العملية غير القانونية.
أما في حالة الأنمي، وفق رأيه، يكمن التحدي في نظام الإنتاج: "بينما يعمل شخص واحد على الأقل على إنتاج المانغا، يحتاج الأنمي جيشا من العاملين في هذا المجال من كافة الأطياف قد يصل لـ100 عامل". ونتيجة لذلك، يضيف الخبير، يصبح في آخر المطاف الدخل الموزع على كل عامل ساهم في إنتاج الأنمي ضئيل للغاية، مما يجعل مواجهة مستلزمات الحياة صعبة، وخصوصا المبتدئين في هذا المجال الذين تكون لديهم المهارة اللازمة لكنها ليست مدرة للدخل الكاف الذي يسندهم ويعينهم لمجابهة الحياة في اليابان.
وبحسب آخر إحصائيات "جمعية المبدعين اليابانيين للأنمي"، ازداد متوسط الأجر السنوي لرسام الأنمي من 1.1 مليون ين ياباني (10 آلاف دولار) سنة 2015 إلى نحو 1.5 مليون ين (14 ألف دولار) في العام الجاري، ورغم هذا التحسن يبقى رسام الأنمي تحت خط الفقر النسبي باليابان حتى الخامسة والثلاثين من عمره. كما تؤكد بيانات الجمعية أن متوسط ساعات عمل رسام الأنمي في الأيام العادية يبلغ نحو 10 ساعات يوميًا، وأنه يحصل على خمسة أيام عطلة فقط خلال الشهر. وتعليقا على هذه الإحصائيات، خلص الأستاذ كاواناكا إلى أنه من المرجح أن تدمر القرصنة وإشكالية الدخل المتدني صناعة المانغا والأنمي اليابانية، ومن الضروري اتخاذ إجراءات قضائية وسياسية صارمة لمنع حدوث ذلك.
وبعوالمها الهائلة من الإنتاجات الفنية، وقصصها الجذابة ذات الجودة العالية التي تطرقت لشتى المواضيع وبطبقاتها المُركبة التي تأتي بها حبكات عدد ليس قليلًا من مسلسلاتها وأفلامها، خلقت عوالم الأنمي والمانغا لنفسها قاعدة جماهيرية كبيرة من المتابعين في كل أنحاء العالم، تتطلع في كل عام إلى الشرق، منتظرة أن تشاهد أحدث إنتاجات هذه الفنون الأثيرة ولا تتوقف عن تحليل ومناقشة كلاسيكياتها في جلساتهم ومنتدياتهم على منصات التواصل الاجتماعي.