«أكبر أزمة أن تكون أنثى في وسط ذكوري، وتصير الأزمة أكبر أن تكون أنثى مؤهلة علميا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا موضوعة في فوهة المنافسة بدون إرادتها، معرضة للطلق العشوائي من كل جانب. وأكبر أزمة أن تكون لديك اختيارات شخصية محددة». بتعددية النساء، وبعنفوان الشاعرة، والباحثة الملمة، والسياسية الجسورة، تحكي مليكة العاصمي، في بوح لمجلة «BAB»، عن حداثة الشعر بالمؤنث في المغرب.
BAB: كأول امرأة تصدر ديوانا شعريا بالمغرب الحامل لعنوان «كتابات خارج أسوار العالم» (1987)، ماذا يعني في وجدانك الشعري ورؤيتك النقدية، هذا التأسيس الأولي على مستوى الشعر بالمؤنث في صناعة حداثة المغرب الشعرية التي كانت آنذاك في معظمها ذكورية بامتياز؟
مليكة العاصمي: منذ أواسط الستينيات وقبل إصدار الديوان، كنت أنشر أشعارا وكتابات ذات خصوصيات معينة تضع في المجال صوتا أنثويا وخطابا مميزا ومختلفا، يحاول أن ينتزع حقه في هجاء المجتمع والناس والعالم، والتعبير عن نفسه بالشكل الذي يريد دون الخضوع لمقاييس وقيم الشعر السائد، مما أحوجني لوضع نظرية للشعر تؤطر تجربتي الفنية.
وقد كانت هناك إشكالات كبرى وحواجز تحاصر حضور المرأة في المجال العام من الناحية المبدئية. أما عندما تكتب الشعر فكأنها تتعرى أمام الملأ، وتصير القصيدة فرصة للتلصص على حميميات المرأة واختراع جرائم وخطايا خفية موجبة للعقاب، واعتبار الشعر اعترافات صريحة بهذه الجرائم.
ثم إن المرأة تعتبر عورة المجتمع كتابتها تكشف ما يسعى المجتمع عموما لإخفائه وستره. وعندما تكتب الشعر فعليه أن يكون عن الدين والوطن وشبه ذلك وليس عن مشكلات الفتاة والمرأة وقضايا وأوضاع النساء ومعاناتهن. كنت أحس أن المغرب، بل العالم لم يكن يحتمل كتاباتي، لذلك هاجرت بها إلى خارج أسوار العالم.
حضوري كأنثى في المجال العام الثقافي وغير الثقافي كان وحده حداثة. ثم حضوري في الحياة العلمية والسياسية والمدنية وغيرها، بحيوية وإصرار، وكتاباتي حداثة أخرى. واتجاهي للنشر حداثة. أما تعبير المراهقة والأنثى عن نفسها ومشكلاتها وعن أوضاع النساء فسابعة الأثافي. كان المغرب يعيش انتكاسة على مستوى تشجيع وتحفيز المرأة. فقد انقلب الوضع بشكل درامي بعد الاستقلال عما كان عليه في مرحلة الكفاح من تشجيع وتحفيز ودعم، وانتهى إلى التنكر للمرأة وإقصائها من الحياة العامة الثقافية والسياسية وغيرها أو تجاهلها وتغييبها. يكفي أن تعرفي أن زملائي في الجامعة وفي الشعر عندما قدموا رسائلهم الجامعية في نهاية السبعينيات، ولا يختلف الأمر كثيرا اليوم، لم يتفضل أي منهم بالإتيان على اسمي أو تجربتي رغم أنني سبقت بعضهم زمنيا لوضع تجربتي واسمي الشعري. عندما يكون هذا موقف المثقف والأكاديمي فماذا يمكن أن تنتظر من عامة المجتمع.
الديوان الذي أشرتم إليه يتضمن قصائد تعبر عن الوضع الذي تتعرض له المرأة وتعاني منه، ويمكن التوقف كمثال فقط عند القصيدة التي صُدِّرَ بها الديوان والتي نشرت في أواخر الستينيات بعنوان «الجدار»، وتتحدث عن الرفض والإقصاء والتغييب الذي يطوق به المجتمع المرأة، بما فيه الوسط الثقافي الذي كان ذكوريا بامتياز. وبالفعل فقد توقف الأديبان الكبيران محمد برادة والطاهر بنجلون عند هذه القصيدة وترجماها منذئذ وصدر بها الشاعر الطاهر بنجلون الأنطولوجية التي أصدرها بالفرنسية بعنوان «الذاكرة المستقبلية/ la mémoire future». كانت التفاتة استثنائية منهما، ومعها التفاتة الأستاذ الباحث الدكتور عباس الجراري في كتابه الأدب المغربي.
عملي أيضا كان دعوة للنساء لغزوة فردية وجماعية لفن الشعر، وللعمل الثقافي والسياسي والمدني وغيره، كان تحديا شاملا مارسته فكريا وميدانيا على كل الأصعدة وفاجأت به البنيات المنافسة وتحديتها، بحيث انتفضت لصناعة النساء ودفعهن إلى الواجهة. كذلك كانت هناك حالات متطلعة عاشقة للشعر حفزتُها جميعا للإقدام على الإعلان عن نفسها والمغامرة في هذا الحقل. وأعتبر كل ذلك واحدا من أهم إنجازاتي التاريخية والتحديثية.
تلاحظون أنها تأسيسات على جبهات وليس تأسيسا واحدا، ولم أسرد منها مع ذلك إلا القليل.
الشاعرة مليكة العاصمي أو «إلزا المراكشية» الملهمة، أو «نساء في امرأة» كيف ترى دور المرأة المغربية في صنع الحداثة الشعرية والإبداعية خاصة، والثقافية والاجتماعية عموما؟
- كل الذكور، وكل الثقافات والحضارات والكيانات البشرية الذكورية اعتبرت المرأة كائنا ملهما؛ كائنا ملائكيا، نورانيا، أو حورية، أغرم الشعراء والمبدعون برمزيتها، أو بتفاصيل صغيرة في نفسها أو فكرها أو جسدها أو غير ذلك.
للمرأة خصوصياتها واختلافاتها وتميزاتها البديعة والمبدعة التي تحفز الإبداع وتلهم المبدعين لابتكار أعمال ورؤى جديدة في كل لحظة، تتجاوز السائد وتبني مواقف ومشاعر خلاقة تضيف إلى الذائقة وإلى الفن إضافات لا تنتهي. وبالمقابل تتشكل لدى الأنثى نفسها من موقع اختلافها رؤى مغايرة لنفسها ولوجودها وأوضاعها وعلاقاتها مع الذكر والمحيط، ما يجعل صوتها وكتاباتها توسيعا لمجال وآفاق الرؤى الفنية وإضافة نوعية تحديثية للفن والثقافة والإبداع، إضافة إلى منهجيتها أو طرائقها في الكتابة والتعبير وزاوية النظر.
إلزا كانت ملهمة طاغور، وشرف لي أن ألهم شاعرا أو شعراء كبارا وقمما إبداعية من هذا المستوى، وأن أضع المغرب ومراكش وأهلهما في التاريخ.
أما بالنسبة للحداثة الاجتماعية فإن الأنثى غير الذكر. عندما نتحدث عن الإنسان يجب أن نتحدث عن المساواة والعدالة. لكن الكثيرين يفهمون المساواة والعدالة مفهوما محدودا، أي أن 1 = 1 بينما 1 لا يساوي 1 دائما. عندما نوسع معنى المساواة، ندرك أن الرضيع وهو واحد يحتاج إلى الرضاعة، بينما أمه وهي واحد تحتاج لغذاء كامل متنوع. كذلك عندما نتحدث عن الأنثى والذكر فهما عنصران متباينان، مكوِّنان بشكل مندمج وغير متباين لهذا الكائن الرمزي الذي هو الإنسان، ومن ثم يكون علينا أن نتحدث عن توسيع معاني العدالة والمساواة لننسجم مع التميز والاختلاف الموجود في واقع البشرية، أي الاختلاف في النوع والتباين الطبيعي بين تكوين ووظائف كل من الذكر والأنثى/ الرجل والمرأة.
جمعت من حولي منذ البداية أسرابا وجماعات من الفتيات والنساء والرجال أيضا ابتداء من زميلاتي وأساتذتي في المدرسة ومن العائلة والأصدقاء والقاعدة الحزبية والاجتماعية. وبهم ومعهم خضت مجموعة معارك نوعية متطورة تناولت مختلف زوايا الوضعية المغربية ومحورية المرأة والطفولة والشباب والقطاعات الإنتاجية في مسارها. وخضت نضالات حاسمة لتوعية المرأة نفسها وتعريفها بالاختلالات القائمة في حياتها وعلاقاتها، وهيأت الملفات المطلبية التي عليها أن تأخذها بيدها وتناضل من أجلها. وكحقوقية لم أترك الفئات الأخرى المقهورة، بل كان لي مع كل منها مواقف وقضايا وشؤون. لقضايا وأوضاع الرجال مكانتهم المحورية هي الأخرى، وللتراث والثقافة والإبداع و…. بالطبع لم أكن امرأة، بل نساء.
ماذا تعني لك الريادة كأنثى باعتبارك من المؤسسين الأوائل لحركة الحداثة الشعرية في المغرب وأول أستاذة جامعية منذ 1967 وأول امرأة منتخبة على الصعيدين الجماعي والنيابي منذ 1976 وأول امرأة أصدرت جريدة بالمغرب تحت اسم «الاختيار»، وفي بداية التأسيس لمسارك الغني بتنوعه هناك ريادة الوالد عالم الفلك والرياضيات في التأسيس لأول مدرسة للفتيات، فماذا تعني الريادة في عرف أسرتكم باعتبارها أيضا أحد المؤسسين للحركة الوطنية؟
- الوالد أعاد بناء المجد العلمي للمغرب ولمراكش بعد ابن البنا المراكشي العددي، كان عالم رياضيات وفلك وفيزياء، له تآليف واختراعات وإنجازات متنوعة في هذه العلوم، وفي غيرها، لكون العلماء في الماضي لم يكونوا مقتصرين على علوم محددة. أدار أول مدرسة لتعليم الفتيات والنساء أيضا، وأسس أول الجمعيات النسائية المدنية. وكان وراء تأسيس التعليم الثانوي والعالي للفتيات بالجامعة اليوسفية. وعمل على تأسيس خلايا العمل الوطني ومقاومة الاستعمار. دفع عائلته الكبرى من إخوته وأصهاره وأصدقائه وجيرانه لمساره؛ فتزعم أخوه الأصغر عمي عبد القادر حسن الحركة الوطنية في الجنوب وتنسيقها على المستوى الوطني، وتميز كرائد الحداثة الشعرية بالمغرب، وأصدر أول ديوان شعري بالمغرب سنة 1936 بعنوان «أحلام الفجر» وكان من أوائل كتاب القصة في المغرب والمقالة الساخرة، كما اشتغل بالصحافة.
التاريخ بطبيعته يتميز بالقطائع والكبوات التي تجعل بعض الفعاليات تظهر في مراحل لتعيد تأسيس التاريخ من جديد وتقويمه وهذا ما عاشته ومارسته عائلتنا بإعادة بناء أمجاد المغرب المهدمة في عدد من المجالات الثقافية السياسية الاجتماعية العلمية...ومن جديد وجدت شخصيا أن كل الأمجاد والمنجزات التي ولدت في أحضانها وراكمتها عائلتنا تم تبديدها بغيابهم، فكنت أمام ضرورة بناء تاريخ جديد.
من الضروري أن تعرفي أنني فقدت أبي في سن مبكر وفقدت بغيابه عددا من عناصر الحياة والمقاومة. حاولت مفردة أن أصلب عودي وأواجه ظروفي، عارية من أي سند. فكانت حياتي سلسلة متصلة من الكبوات والخسارات بقدر ما هي سلسلة متصلة من الإنجازات. أعتبر ما أنجزته دعما من القدر، ومن ذلك التراث العائلي المتغلغل في النفس الذي منحني القوة والصمود، بينما كان على الظروف التي تعرضت لها أن تطيح بي نهائيا. أكبر أزمة أن تكون أنثى في وسط ذكوري، وتصير الأزمة أكبر أن تكون أنثى مؤهلة علميا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا موضوعة في فوهة المنافسة بدون إرادتها، معرضة للطلق العشوائي من كل جانب. وأكبر أزمة أن تكون لديك اختيارات شخصية محددة. لقد جمعت الكثير من عناصر الاستفزاز ما جعلني غالبا في فوهة المدفع، وعرضني لحالات التدمير دون توقف. مع ذلك كما ترين، أسست ريادات نوعية وما زلت.
سأحدثك بشيء ربما يكون هاما. لقد تعرضت للطرد أول مرة في حياتي من المدرسة الثانوية قبل أن يتحول الطرد إلى طابع حياتي وإلى مكون رئيسي في مكوناتها. تمسكت في التوجيه للسنة الأولى من السلك الثاني الثانوي باختيار الشعبة الشرعية وليس الأدبية. وفي يوم كان أستاذ الفقه يقرر درسه، كما يقول، متحدثا لنا عن جواز تقديم عبد كصداق للمرأة. وهو موضوع دعاني لمساءلته: أستاذ إذا زنت المرأة مع هذا العبد الذي قدم لها في صداقها فقد زنت مع صداق أي مع مال وليس مع عبد، أي أنها لم ترتكب خطيئة الزنى.
وقع السؤال على الأستاذ وقع الصاعقة وقرر ألا يدخل إلى المدرسة التي أوجد بها. وكان على ان أطرد نهائيا، وهو ما حدث. أستاذ طيب محترم ما زلت أقدره تقديرا كبيرا، يرحمه الله. لكنه السؤال الممنوع.
كان ذلك سنة 1960 عندما لم يكن أبي قد غاب حينها، بحيث عدت إلى المعهد في ظروف آمنة. لكنني فقدت أبي في 2 أبريل من السنة الموالية. منذئذ أطرد بلا رحمة دون أن أجد من يعيدني أو يسندني، وحتى من يتفهم انشغالاتي ويقومها. صار الطرد من الجامعة ومن السياسة ومن الثقافة ومن أية مؤسسة أو غيرها سمة حياتي، يتكرر بانتظام وباستمرار، ويحضر في كل المواقف والمواقع.
في حدود ما تحدسين من قلب ومن خارج تجربتك الإبداعية (رغم صعوبة الأمر) ماذا أضاف صوت مليكة العاصمي الباحثة والمربية والمناضلة السياسية وقبل ذلك المبدعة المرهفة الإحساس إلى الحالة الشعرية والجمالية المغربية والعربية عموما؟
رغم أن الصوت كان حييا، إلا أنه كان واعيا منذ البداية بما يريد، ومصرا على ممارسة اختياراته والتعبير عن نفسه ورأيه وموقفه وتجربته بخصوصياتها المختلفة، مع ما يشكله كموقف من خطورة أو مخاطرة، وما يحدثه كنموذج مغاير من صدمة ثقافية حضارية، وما يطرحه كطريقة وأسلوب في كتابة الشعر لغة وتقطيعا وإيقاعا من تحديات. الشعر مغامرة صعبة إذا صدر من موقع المسؤولية الفنية والفكرية معا، وهو ينمو معي وما زال ويقدم في كل مرة من ديوان لآخر وبالأحرى من قصيدة لأخرى تجربة جديدة مغايرة تماما تستحق الكثير من التأمل والدراسة والفحص.
قلت إن الصوت كان حييا مضطربا وهو ينشد قصيدته، لكن ذلك الصوت بما يختزنه من أزمات ومحمولات اعتبر إضافة نوعية هو الأخر لتجربتي الشعرية ولخصوصياتها. ليس لهذا الأمر أهمية في رأيي، ولكن الوسط الثقافي والنقدي منحه عناية خاصة.
أشرت إلى قراءتي للشعر، وهي تجربة أثارت في المربد سنة 1972 نقاشا آخر جديدا، يتعلق بمسألة الأداء الشعري وعلاقته بالتلقي. وقد استخلص النقاد حينئذ ما اعتبروه عنصرا أو قيمة أو علما جديدا من علوم الشعر، سماه الشاعر الكبير الأستاذ أدونيس «الشعر: الأداة والأداء»، بحيث صار أو تجدد اعتبار الأداء والإلقاء الشعري عنصرا جديدا في قيم الشعر العربي وغير العربي انطلاقا من هذا المهرجان وهذه القراءة.
لا أدعي أنني أضفت شيئا، فقط أتصور، حسب الرصد التاريخي، أنني وضعت وما زلت أضع من قصيدة لأخرى ومن منبر لآخر تجربة مختلفة، وربما مميزة أو مثيرة بشكل من الأشكال، يكون لها صدى وانعكاس وارتدادات، وهو الأهم. يكفي أنها تناسلت وأنتجت أصواتا نسائية عديدة ذات مذاقات لذيذة وممتعة.
طرحت تجربتي الشعرية منذ أواخر الستينيات في الصحافة المغربية وفي منابر الجامعة. وكان مهرجان المربد في أوائل السبعينيات منبرا أساسيا، كذلك مؤتمرات اتحاد الكتاب العرب، ومنبر القاهرة للكتاب، كلها مواقع شكلت فرصا للتلاقي والنقاش العربي العام والغربلة. فقد كان يحضر لهذه المناسبات من كل الأصقاع العربية وغير العربية أساطين الثقافة والإبداع والنقد. المربد كان سوقا بكل المعاني، دعي له كبار الشعراء والنقاد والمفكرين والمبدعين العرب والأجانب من مختلف القارات واللغات والثقافات، ومثله كانت باقي المناسبات المذكورة التي شكلت فرصا لإبلاغ أصواتنا والنضال من أجل القيم التي نحملها إبداعيا أو فكريا.
تشعب اهتماماتك بين التاريخ والأنثروبولوجيا والنقد الأدبي وقضايا المرأة، واشتغالك بالسياسة وتقلدك لمهام عليا في حزب الاستقلال لم تفلح كما تقول الناقدة والباحثة زهور كرام في إبعاد الشعر عنك وفي تغييب تلك العلاقة الجمالية الإبداعية التي تربطك بالقصيد.. فكيف تتشكل العلاقة لديك بين كل هذه الاهتمامات؟ وأيها يتصدر؟ وبأية مقاييس علمية وجمالية؟
منحت نفسي منذ الطفولة للعمل العمومي، لم أدخر منها شيئا حتى للشعر، زاحمته وحاصرته كثيرا، لعله يعذرني ويسامحني. البلاد كانت وما تزال بحاجة إلى التعبئة العامة، والكثيرون كانوا قد انسحبوا من الميدان وأخذ الصراع بالمغرب منحى سياسيا أهمل الجوانب الاخرى الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها وترك الأوضاع في حالة من التدهور الشامل. كل الفئات الاجتماعية كانت تعاني أزمة حقوقية شاملة جعلتني ألقي بنفسي في هذا الخضم عن طريق العمل الاجتماعي بأشكاله المتعددة والعمل الثقافي والفني كذلك بتجلياته الكثيرة، وفي نفس الوقت العمل الفكري والنضال السياسي والحقوقي والبيئي، أواجه أزمات السكن والبيئة والعيش والعطالة والأسرة وغيرها، في محاولة للتخفيف عن قطاعات مقهورة، لا يختلف الأمر بين النساء والرجال والأطفال والشباب والعمال والقطاعات الإنتاجية المتدهورة، البلاد تئن.
التجربة السياسية والتمثيلية، أي الانتخابية التي خضتها ابتداء من سنة 1976 حتى 2011، أي على امتداد 36 سنة عالم وكتب لوحدها أو عدة مجلدات. لكن الشعر حَرُون ومخلص، وهو الذي منحني اسمي فكيف أنساه أو أهمله. رغم كل ما أنجزت في مختلف القطاعات لم أجد البرور إلا في الشعر. الشعر هو الذي سماني. لم أعرف بالمفكرة رغم أنني زرعت حبات الأرض بالأفكار والنظريات والمشاريع الوطنية وغير الوطنية، ولم أعرف بالسياسية ولا بالفاعلة المدنية ولا بعالمة الدين ولا عالمة الاجتماع ولا ولا... لكنني منذ صباي الأول عرفت شاعرة إلى الآن، فكيف لا أخلص للشعر. من إخلاصي أنني أسرق له اللحظات من بين فرط ودم. الزمن لم يكن سخيا معي فساعات النهار ضيقة تلتهم بسرعة، وأحتاج لساعات الليل التي لا تكفيني هي الأخرى، أسرق منها للشعر لحظات في بعض الأحيان عندما يحلو له السكون إلى نفسي. لم أكن أنام إلا جزءا يسيرا من الليل. هذا الخيط الناظم التقطته الناقدة الكبيرة زهور كرام بحدسها ورصدها كخبيرة متتبعة للحقل الإبداعي المغربي.
حيز التمرد والمساكنة في إبداعاتك الشعرية هل كانت مواكبة لما كان يصادف الباحثة والسياسية لديك، وهل كانت بديلا عنها أم مكملا لها، أم بطعم السبق والتحريض لها ؟
الحياة تسير بشكل أعوج نخوض معركة متواصلة لنقومها في جهة فتعوج في الجهة الأخرى ما يقحمنا في دورة لا تنتهي من الرفض والتمرد. حياتي لم تكن هينة في أي موقع كنت، وأنا لم أكن مهادنة. درجة الرفض والتمسك بقيم غير مقبولة في الواقع دفعتني باستمرار إلى الهامش بل إلى الحافة والسقوط المدوي في أعماق الجب. تعرضت لكل أنواع الاضطهاد والإقصاء والعنف وكنت أعرف مقدار مسؤوليتي عما اتعرض له وأصر على المواصلة والاستمرار. لذلك لم أحتفظ بأية غصة من الخسارات الثقيلة التي خسرتها سياسيا ومهنيا وفي باقي الظروف والمواقع، وأنا راضية تمام الرضى عن حياتي بكل كبواتها، وعلى اختياراتي وكل ما فعلته، نجحت فيه أو فشلت فيه سواء.
عشت كما لو أنني في معركة، علي أن أحشد لها كل الأدوات والأسلحة. نزلت إلى الميدان حيث تنتشر الأوساخ والفضلات وحتى الجثث المتعفنة، ودخلت القاعات المخملية، وغزوت الأماكن والمواقع الخبيئة، ونبشت في المستور والمدبر والمبيت بليل، واكتشفت الأشياء والناس من الداخل، وكان طبيعيا أن تعلق بي تلك المشاهد التي أظل أحملها وأبثها في الشعر وفي غيره. لم يصرفني العمل الفكري والدراسات والأبحاث والتفاعلات المختلفة عن العمل الميداني، بل عشت بعمق في الميدان وفي دواخله، قلبي كان قبوا لأسرار الناس صغارا وكبارا، جاهدت لأتجاوب مع مشاكلهم ومعضلاتهم ومعاناتهم. ولتغيير حياتهم ما أمكن.
يعتبر الشعر منجزا إبداعيا صرفا، وأقنوما من أقانيم القلق الوجودي والأنطولوجي، وبصيرة فلسفية تأملية للواقع بامتياز، فكيف يمكن للشعر برأيكم أن يحدس بدهشة وبتمثلات معينة مستقبل الإنسان وخاصة في ظل جائحة كورونا؟
الشعر في رأيي أغلبه نبوءة وتزيين للحياة ورفع درجة الاستمتاع فيها والتعلق بها. في الشعر نغادر الواقع إلى المتخيل كي نخلق الأجواء المنشودة التي نحلم بها، الشعر مستوى من مستويات الحلم أو هو الحلم في أعمق لحظاته المغرقة. الشعر يصنع الفرح الذي نفتقده في ظل كورونا أو أية جائحة من الجوائح اليومية التي تعترض الشاعر بل الإنسان في واقعه اليومي. وظائف الشعر كوظائف الغذاء «والغناء» للجسم، بذلك لا يغيب الشعر في الواقع اليومي حتى في السباب بين الناس والتشاتم أو في التحايا والترحيب. وفي الخطابات العادية وغير العادية تحضر الأمثال والتشبيهات والاستعارات والصور. الإنسان يعيش بالخيال وفي الخيال ويدير أشرطة سينمائية في ذهنه وبين عينيه دون توقف ويقوم بأنواع الإخراج والتفنين لصياغتها بالشكل الأجمل والأكثر دهشة كي يعبر بها للآخر عن جمال روحه، وحتى عن شروره وجرائمه، الشر نفسه يجاهد كي يطبع فعله بطابع شعري عميق ليشبع غريزته الشريرة ويحس أنه فعلا مارس شره في أقصى وأحسن درجات الأداء الفني. هذه الجائحة تنتج حاليا، وستخلف ركاما هائلا من الإنتاج الشعري، ربما يخلد بعضه في وجدان الأجيال، لكن أغلبه عابر لحظي منته.
اسمحي لي أن أنقلك من الجمال إلى القبح ولكنه الشعر درجة من الإيغال في الافتتان. والشعر هو الغناء والإيقاع والترنم وإمتاع النفس.
هل ما زال لديكم الإيمان بقدرة الشعر، من زاويتك كشاعرة، على التحدي والمقاومة وإحداث التغيير، أو على الأقل إعطاء تلك القيمة المضافة لنسيج القيم الفكرية والجمالية والأخلاقية ؟
على الشعر أن يخرج من قوقعته وينزل إلى الساحات والشوارع ويتحدى الحصار كي يعانق الجماهير وينهض بدوره. نحن اليوم نتهامس في القاعات المغلقة أو المفتوحة سواء، لا يصيخ لنا سمعهم حتى الشعراء. لا أفكر أبدا في الشاعر الجوال، ولكن القضايا الكبرى يحملها الكبار. الشعر يحتاج إلى ثورة وانتفاضة كبرى أو غزوة عارمة كي ينهض بدوره. أنا سعيدة اليوم بهذا التهافت الغريب على كتابة الشعر وقول الشعر والانتماء إلى الشعر بكل ما يوظف لذلك من وسائل التوصيل والنشر. يمكن أن أسميها هجمة الشعر التي سيكون لها ما بعدها. ركبت تجربة إخراج الشعر للناس في الشارع وإشاعته في أوساط الجماهير كمنادي. مثلا في قصيدة «مدائن عاد مدائن ثمود» مارست دور «البرَّاح» المنادي في الساحات والدروب وخرجت من قاعات الشعر إلى الناس أناديهم وإلى الجماهير في الشوارع، علينا أن نفكر في الأمر جديا. إما أن ننجح في دعوة الناس لقاعاتنا أو أن نخرج إليهم. هناك مهرجانات عارمة تحتشد لها الساحات والمنصات والوسائل التقنية واللوجستيكية وتفرش فيها البسط الحمراء والملونة وتملأ لها فنادق خارج التصنيف ويهدر فيها المال دون حساب ويشرفها علية القوم الوطنيون والدوليون والنجوم والمشاهير وتقدم فيها الأغلفة السمينة، إلا الشعر، وهذا خلل كبير، لا يقبل.
في فترة ما عبرت من خلال قصيدة «الداء» عن خيبة أملك في المثقفين من حملة المشاعل ونافخي الأبواق وقارعي الطبول. ما المهمة التي ترينها جديرة بالمثقف في زمن تغشاه فوضى القول والقائلين من مختلف المنابر بتعدد وسائل التواصل الاجتماعي وتعدد نوايا المتهافتين على ملء الفضاء المسموع والمرئي بالصراخ؟
بعض المثقفين اليوم أكثر سقوطا من ذي قبل وأكثر هشاشة واستعدادا للانبطاح. ذهبت أيام النضال وقيادة المثقف للتحولات الاجتماعية. المثقف اليوم معروض على القارعة للخدمة، لمن يدفع أو من يولي في منصب أو من... الحمد لله أنهم لم يصلوا بعد إلى حالات الصنهاجي وبوبكر رفيق. والحمد لله أن في الدنيا خيرا، فما زال كثير من المثقفين صامدون في الساحات والمنابر والمواقف. لكن المصالح والغنائم تنازعتنا فتشرذمنا وتشتتنا شذر مدر، أين جبهة المثقفين وأين تنظيماتهم وأين صوتهم وموقفهم وقوتهم» التي تزعزع الواقع وتقوده في الاتجاهات القويمة، وأين هو مؤتمر اتحاد كتاب المغرب لسنة 1973 بمدارس محمد الخامس على سبيل المثال.
أقول لك: «ليتني فيها جدعا». المشكل أن الزمن لا يعود الى الوراء، وأعتقد أن هناك مسؤوليات مرتبة على الأجيال الجديدة رغم أنها معذورة لكونها لم تنشأ على ما نشأنا عليه، وجدت الثقافة في خريفها الموات، فاعتقدت أن الأمر هكذا.
هو جيلنا وبقاياه من يوجدون في ساحات النضال اليوم يقدمون الدروس للأجيال الجديدة لعلها تتعلم.
في كل يوم أنتفض وأغضب، وكثيرا ما أقول ما قاله ورقة ابن نوفل لرسول الله: يا ليتني فيها جدعا».