تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الإشهار والجسد

Par
نادية أبرام

..


الإشهار، حسب تعريف عام، هو طريقة للتواصل مع المستهلك لعرض سلعة أو خدمة، وجلب انتباهه للمزايا التي يوفرها المنتج عبر شتى الطرق للوصول إلى جيبه، ويلجأ المنتجون للترويج لسلعهم وخدماتهم ضمن منافسة شرسة لوفرة العرض في الأسواق. كل طرف منتج يسعى إلى أن يحتل مساحة أكبر من اهتمام المستهلكين، والفوز بتفاعلهم مع منتوجه، من خلال اختيار خطاب ورسائل يراها ملائمة لعرضه، بالصوت والصورة. والإشهار كان دائما موجودا في حياتنا، وتطور مع مرور السنين، وأضحى فنا ضمن باقة الفنون البصرية، وفرض نفسه في المشهد الإعلامي، وأصبحت الشركات التي تتاجر في الإعلانات أهم الشركات الربحية، فأفرز هذا التطور مجتمعات استهلاكية بامتياز، يعتمد على الابتكار وإبداع طرق إقناع، وعلى دراسة طرقه وأساليبه وتقنياته.

إلى حدود هذه السطور، لا خلاف على الإشهار، لأنه طريقة مشروعة لكل منتج يرغب في تسويق سلعته، لكن أن يتحول جسد المرأة إلى المحرك الأساسي لكل إشهار، فذلك تعدي فاضح على كينونتها، إذ يتم إقحامها حتى وإن كان المنتج لا يحتاج إلى ظهورها في الصورة.. وللأسف نجد أن القنوات العربية هي الأكثر تكريسا وترويجا لهذا النوع من الإشهار حتى حول التلفزيونات لما يشبه سوق النخاسة، عبر عرض فاحش لأجساد النساء، مغنيات وممثلات وعارضات أزياء… يقبلن على أنفسهن تكييف الجسد مع السلعة في تغييب تام للعقل، وحصرهن في مهمة الاثارة. لم أستوعب، وغيري كثير، العلاقة بين الترويج لشقق في إقامات فاخرة وفلل، وبين مغنية أو ممثلة مشهورة،جميلة فاتنة، ترقص وتقوم بحركات مثيرة. فعلا، لا أجد خيطا رابطا، أو الهدف من توظيف أجساد شابات في أوضاع مختلفة في الإشهار الواحد، على اليخوت، وفي البر وبجانب حمام السباحة للترويج لمنطقة سكنية.. ثم أمر آخر،  هل المستهلك إذا شاهد اسما لامعا في سماء "الفن" يدعوه لاقتناء شقة أو فيلا رائعة فيها كل أسباب الراحة، سيقتنيها؟ أم هناك رغبة مستبطنة في خياله؟ وما هي الرسالة المقصودة من وراء مثل هذا النوع من الاشهار؟ هناك فعلا مبالغة في توظيف جسد المرأة حد الإهانة والتبخيس. بعض الوصلات الإشهارية، يضيع فيها المستهلك بين أجساد عشرات الفتيات.

في وصلة إشهارية بقناة عربية تظهر ممثلة بفستان أحمر، في إشهار للترويج للسيراميك، لا تتكلم، فقط تقوم بحركات في مشهد مثير، والكاميرا تركز على مفاتنها، وفي لقطة تلمس الجدران بطريقة فيها إيحاءات لا تخرج عن زاوية الإثارة الجنسية. المشاهد لن يهتم في الغالب بالسلعة التي يروج لها، بل سيهتم فقط بتفاصيل الجسد. فما العلاقة بين السيراميك وجسد المرأة والفستان الأحمر؟، هذا بالضبط الذي لا أفهمه، وإلا فإن مثل هذا الإشهار يستهدف جمهورا خاصا.

حقيقة أن هذه العبقرية العربية في الإشهار، تجاوزت كل الحدود، ولم تعد هناك ضوابط تحكم المجال وتحد من تجاوزاته.  وهذه الوصلات، للأسف، ارتفعت وتيرتها في شهر رمضان، كأن الأمر مقصود، للترويج لهذه الصور، بل وجدت العديد من الممثلات، لم يشاركن في المسلسلات الرمضانية لهذه السنة، فرصة للظهور في كم هائل من الوصلات، وكلها تتشابه، وتلتقي عند محور الإثارة والإغراء وليس إبراز مزايا المنتج.

إن توظيف جسد المرأة وإقحامه بهذه الطريقة في الإشهار، يجرده من إنسانيته، ويحوله إلى سلعة لا تختلف عن المنتوج الذي يروج له. كان بالأحرى مشاركة هذا الجيش من الممثلات، في دعاية للأعمال الخيرية والخدمات الإنسانية، بدلا من السقوط في هذا الابتذال. هذا التحول تراجع خطير على مستوى صورة المرأة في وسائل الإعلام، صنع خطابا جديدا ومفهوما مغايرا جردها من إنسانيتها. وكل جهود المنظمات الحقوقية والجمعيات النسائية التي كافحت من أجل تغيير هذا السلوك وتحسين صورة المرأة في وسائل الإعلام المرئية، ذهبت سدى. لكن يظهر أن عالم الاشهار، لا علاقة له بتاتا بالمسؤولية الأخلاقية، وأن منطق الربح الذي يحسب بالأرقام، لا يلتقي مع منطق القيم واحترام الذات.