
تتعدد المآسي التي ارتبطت بألعاب الفيديو أو الألعاب الإلكترونية. ففي المسيسيبي بالولايات المتحدة، أطلق طفل في التاسعة من عمره، في أحد أيام مارس 2018، النار على أخته التي رفضت تمكينه من ذراع اللعب فيما اضطرت إحدى الأسر في قسطلون الإسبانية، في شتنبر الماضي، إلى إدخال ابنها البالغ من العمر 15 سنة المستشفى أملا في شفائه من إدمان لعبة "فري فاير" (Free Fire) التي كان يقضي في لعبها 20 ساعة يوميا.
وفي القنيطرة المغربية توفي صبي في يونيو الماضي جراء تبعات انهيار عصبي حاد أصيب به بسبب الإدمان على اللعبة نفسها. فقد بدت على اليافع نزعات انتحارية بعدما تمت قرصنة حسابه.
أما في صفرو (غير بعيد عن مدينة فاس) فكانت اللعبة نفسها وراء مأساة أخرى حيث قتل يافع في الـ15 سنة أيضا أمه خطأ بعد أن دفعها بقوة كرد فعل على رفضها مده بخمسة دراهم لشحن هاتفه المحمول والاستمرار في اللعب.
هذه المتفرقات من هنا وهناك، وإن كانت لا تمثل إلا جزء يسيرا من المآسي المرتبطة بهذا القدر أو ذاك بألعاب الفيديو، تكشف جانبا مظلما لهذه الألعاب التي ترتبط في الأذهان بالترفيه والمتعة فيما هي قد تصبح في حال الإفراط في استخدامها سلاحا مدمرا للصحة الجسدية والنفسية للقاصرين بالخصوص.
وفي الوقت الذي تحقق فيه صناعة الترفيه الإلكتروني أرقاما قياسية على كل الأصعدة، منها مداخيل تتجاوز 300 مليار دولار وحوالي 2.7 مليار مستخدم عبر العالم، فإن السؤال يصبح ملحا حول مسؤوليات وواجبات الشركات العاملة في المجال تجاه المستهلكين وأغلبهم من القصر.
والسؤال لا يعني فئة محدودة فقط بل يعني الجميع تقريبا، فمن منا لم يصب بالرعب وهو يكتشف أن ابنه أو ابن قريبه يلعب لعبة خطيرة كـ"فري فاير" (اللعبة الأكثر تحميلا على الهواتف المحمولة)، والتي تقوم فكرتها على سباق بين أصدقاء أصابهم الملل خلال عطلة فقرروا خوض سباق لقتل بعضهم البعض أو كـ"جي تي إي" (GTA) والتي يتحول فيها لاعبها إلى رجل عصابات يطلق النار على كل من يصادفه، كان طفلا أو أمرأة أو رجلا، قصد تجريده من أمواله. هذا فضلا عن مشاهد الخلاعة التي تتضمنها مثل هذه المغامرات الإلكترونية.
عنف وجنس وعنصرية.. هل هي سوق أم غابة؟
هل تبذل هذه الشركات التي تعرف جيدا كيف تحقق أرباحا خيالية، جهدا ولو بسيطا لتخليص ألعابها الموجهة لأطفال أبرياء من كل ما هو عنف وبورنوغرافيا وعنصرية؟ وهل هناك جهة ما قادرة على محاسبة هذه الشركات؟ إنها أسئلة بدون أجوبة حسب السيد مروان هرماش المختص في التواصل الرقمي والشبكات الاجتماعية.
إنها شركات تعمل أساسا وفق مخططات تسويقية، يقول السيد هرماش، فهدف تحقيق أكبر ربح ممكن يسمو على اية اعتبارات بيداغوجية أو أخلاقية. ويضيف المختص في العالم الرقمي "عندما تطور شركة ما لعبة جديدة فإن هدفها الوحيد هو استقطاب أكبر عدد من اللاعبين (المستهلكين) وبالتالي تحقيق أكبر ربح ممكن. آخر انشغالات هؤلاء المطورين هو ضمان أن لا تقع منتوجاتهم المصنفة كألعاب لمن تفوق أعمارهم 16 سنة، لاحتوائها على مضامين عنف وعري، في يد طفل لم يتجاوز الثامنة".
وتكون لهذه اللامبالاة المتعلقة بتصنيف الألعاب حسب الفئات المستهدفة وعدم التقيد بهذا التصنيف، تبعات كارثية كما تؤكد ذلك السيدة إيمان القنديلي في حديثها لمجلة "BAB"، وهي الخبيرة في علاج أنواع الإدمان ومؤلفة كتاب حول مخاطر إدمان المخدرات.
وتضيف السيدة القنديلي أنها استقبلت آباء أطفال ظهرت عليهم سلوكيات عدوانية أحيانا أو مرتبطة بانهيار عصبي أحيانا أخرى، نتيجة عدم احترام التصنيف العمري للألعاب الإلكترونية، مؤكدة أن بعض الضحايا يكونون في حاجة للتكفل في مؤسسات استشفائية.
وبالنسبة للسيد هرماش، فإن سوق الألعاب الإلكترونية لا يكترث بقواعد المسؤولية الاجتماعية للمقاولات لسببين اثنين "أولهما يتعلق بعدم وجود أي رهان سياسي من وراء تقنين القطاع، فالأمر يتعلق بأطفال ومراهقين (وحتى من بين البالغين) يلهون وهم منزوون دون أن يتسببوا في أي ضرر لأي كان. أما ثاني الأسباب فيرتبط بالطبيعة المعقدة والحرية الكبيرة التي تتمتع بها هذه السوق والتي تجعل من الصعب فرض أي مراقبة أو تقنين فعال".
لقد أصبح مجال الألعاب جنة المطورين الباحثين عن مراكمة الأموال دون حسيب أو رقيب (باستثناء ما يتعلق بالضرائب)، وغابة بالنسبة للاعبين الذين يرغبون في اللعب بلا حدود ولا قيود على السن أو حماية من المضامين غير الملائمة ومن الرسائل غير الظاهرة التي تحملها بعض هذه الألعاب مع أنها قد تبدو محايدة للوهلة الأولى.
إن أحد المظاهر السلبية، والذي لا يقل خطورة عن غيره، في هذه الألعاب هو كونها تتيح ولوجا حرا وغير محدود زمنيا وهو ما يسبب نوعا من الادمان والارتهان للعب مع ما يحمله من آثار مدمرة للأطفال والمراهقين وبالتبعية لأسرهم أيضا.
تقول الخبيرة القنديلي التي سجلت ارتفاعا في حالات الإدمان التي عرضت عليها خلال فترة الحجر الصحي "إن هذا الضرر يتجسد حسب الحالات في عدد من السلوكيات المرضية كالانعزال الاجتماعي، والاضطرابات في النوم والتغذية، وصعوبات في التحصيل المدرسي، وانهيار عصبي، وعدوانية وعلاقات متوترة مع الوسط الأسري".
ومن البديهي أن شركات تطوير الألعاب الإلكترونية تتحمل نصيبا من المسؤولية عن هذا الإدمان والارتهان للعب والأضرار التي يخلفها. فوراء كل لعبة جديدة تطرح في السوق جيش من مؤلفي سيناريوهات اللعب والمصممين وخبراء الغرافيك والتقنيين، وكلهم يعملون ليل نهار حتى تكون اللعبة أكثر إغراء وجاذبية بما يجعل المستهلك/اللاعب يقضي أطول وقت ممكن أمام الشاشة وكأنه ضحية تنويم مغناطيسي.
ألعاب MMOG... مخدرات حسب الطلب
وتشير أصابع الاتهام بالخصوص إلى نوع محدد من هذه الألعاب والمعروف بـ"MMOG"، وهي الألعاب التي تمكن بفضل الارتباط بشبكة الانترنيت عددا كبيرا من الأشخاص من التنافس دفعة واحدة. وبعض هذه الألعاب يتيح للمستخدمين إمكانية التحدث أو المراسلة الفورية مما يزيد من التشويق والإثارة.
ففي لعبة "Empire" مثلا والتي تم إطلاقها منذ 1974، فإن جولة واحدة يمكن أن تجمع 32 لاعبا. ومن أجل استدامة الإقبال على اللعب فإن المطورين يلجأون إلى تقنيات وأساليب أخرى مبتكرة، ومنها الإصدار المنتظم لنسخ محسنة من اللعبة الاصلية أو لملحقات جديدة لها، وبهذه الطريقة فإن اللاعب يشعر، من حيث لا يدري، بحاجة للرفع من "جرعة" اللعب حتى يصل إلى الإدمان أو "الجرعة القاتلة".
ومع ظهور "cloud gaming" أي الولوج إلى الألعاب عبر مصدر سحابي أو "اللعب السحابي" وكذا العملات الرقمية، التي يمكن تحويلها إلى عملات متداولة والعكس، والتي تستخدم في بعض الألعاب من أجل اقتناء تجهيزات جديدة أو اسلحة أو شخصيات، فإن خطر الإدمان على اللعب يزداد ويأخذ أبعادا مقلقة أكثر فأكثر.
في ظل هذه المعطيات والحقائق هل يمكن أن نخلص إلى أن هناك ألعابا أكثر تسببا في الإدمان من غيرها؟ الخبراء الأمريكيون منقسمون في هذا الشأن وقد أكدت دراسة نشرت في "Journal of Child and Adolescent Psychiatry" وجود احتمال كبير للإدمان بين من يلعبون لعبة "فورت نايت" (Fortnite) مثلا وذلك بالنظر لعدة خصائص في اللعبة الشهيرة ومنها "فرض مهلة محددة لرفع التحدي في كل مرحلة، وخلق رغبة في عدم خسارة التقدم المحقق، والولوج إلى البث المباشر الذي يمكن الآخرين من التعليق وإبداء الرأي في الاستراتيجيات والتقنيات المستخدمة" في المعارك الوهمية.
وعلى عكس ذلك تذهب السيدة القنديلي إلى أن الأمر لا يتعلق بتاتا بنوع اللعبة بل بالطريقة التي يتم بها التعاطي مع اللعب والحيز الزمني المخصص له. وتقول الخبيرة "يجب التساؤل عن مدى تأثير الوقت الذي يقضيه الشخص أمام الشاشة على حياته الاجتماعية وعلاقاته الإنسانية، وما إذا كان اللعب بهذه الوتيرة أو تلك يجعل اللاعب أكثر دينامية أو أكثر عزلة وعدوانية..."
في كل الأحوال، فإن الاستهلاك المفرط للشاشات والتعرض للمضامين غير الملائمة أصبحا من سمات العصر تماما كاللامبالاة التي يبديها ويدافع عنها مطورو الألعاب وناشروها وعدم وعي الآباء والغياب التام لدور المدرسة.
في الحاجة إلى تربية على استخدام الألعاب الإلكترونية
بعد هذا التشخيص يبقى السؤال الأهم هو ذلك المرتبط بالحلول الممكنة لتفادي هذه الانزلاقات. ما العمل ومن هو المخاطب للبحث عن مخرج ينقذ الأطفال الذين تحولوا إلى شبه رهائن في غابة الألعاب الإلكترونية.
الآراء الأكثر راديكالية تعتبر أن السلطات العمومية مدعوة للتدخل وبقوة كما هو الشأن في الصين التي قررت السلطات فيها تحديد مدة اللعب في ساعة واحدة يوميا أيام الجمعة والسبت والأحد ما بين الثامنة والتاسعة مساء، أي بمعدل ثلاث ساعات أسبوعيا.
آخرون يتساءلون عن جدوى مثل هذه التدخلات الرقابية في ظل الثورة الرقمية والتطور الحاصل في مجال الاتصالات (الجيل الخامس) وغيرها.
وبالنسبة للسيد هرماش فإن مثل هذه المقاربة قد يكون لها ما يبررها في بلد مثل الصين حيث يتجاوز استهلاك الألعاب الإلكترونية المعدل العالمي بكثير، غير أنه يعتبر أنه من غير الممكن نقل هذه الآلية الرقابية إلى بلدان أخرى وهو يقترح عوض ذلك تنظيم ورشات تكوين موجهة لليافعين والشباب وأسرهم من أجل تربية رقمية والتحسيس بالمخاطر التي يحملها العالم الافتراضي عموما وعالم الألعاب الإلكترونية بالتحديد.
ويوضح السيد هرماش موقفه هذا بالقول "في ظل لا مبالاة الشركات العاملة في هذا السوق وغياب إرادة لدى السياسيين للتعاطي مع هذا الوضع وضعف ومحدودية التحرك الفردي، فإنه يتعين التفكير في النهوض بمبادرات مواطنة تشمل الأسر والمدرسة والمجتمع المدني. إنه في نظري أحد المفاتيح".
إنه الرأي نفسه الذي يتبناه محمد أبوتاج الدين المستشار في البيداغوجيا التقنية والمدرس المتعاقد في مركز تكوين مفتشي التعليم، حيث يقول في تصريح للمجلة "مسؤولية مكافحة الأضرار الناجمة عن الألعاب الإلكترونية موزعة ما بين الفاعلين الثلاثة، أي الأباء والمدرسة والمجتمع/ الدولة".
وتابع "كخطوة أولية وضرورية يتعين على الدولة أن تشجع الأبحاث في هذا المجال والتواصل حول نتائجها والتحسيس بمختلف جوانب الموضوع.
ثم هناك دور المدرسة التي يتعين أن يفكر القائمون عليها في الطريقة المثلى لاستثمار نتائج هذه الأبحاث والسياق الملائم الذي يمكن الأطفال من استيعاب خلاصاتها. أما الآباء فيتعين أن يستفيدوا من مواكبة وتحسيس من قبل مختصين حتى يقوموا بدورهم في هذا الإطار.
وفي ظل الوضع الراهن فإن الكرة تظل في ملعب الأسر والمدرسة، فعلى غرار التربية الوطنية يمكن التفكير في إرساء تربية رقمية للشباب وأسرهم حتى يتمكنوا من امتلاك الأدوات اللازمة لتطوير حماية ذاتية من مخاطر عالم مفتوح وفوضوي كعالم الألعاب الإلكترونية.
ويجب دائما استحضار أن مستقبل وصحة أبنائنا ليست بالتأكيد "لعبة".