تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

إسبانيا.. وحتمية المغرب القوي

Par
عبد المغيث صبيح

..


ما الذي يغيض إسبانيا حتى تسقط، من حين لآخر، في زلة عدم التعامل مع المغرب بما يليق به؟ ما الذي يغذي خوفها من نجاحه؟ من نجاحاته؟ من تحقيقه لمصالحه؟ أهو تصوره الحر والمشروع لمشروعه التنموي، لاسيما في صحرائه وفي شماله؟! أهو انكسار "عصا الصحراء" التي طالما كانت تتأبطها قبل الجلوس إلى طاولة النقاش والحوار والتفاوض معه بشأن ملف ما؟! أهو ترفعه عن لعبة اليمين واليسار في إسبانيا التي طالما تأرجحت بينها العلاقات الثنائية؟! أهي نقاط الوضوح التي باتت الرباط تضعها على حروف الخطاب الاسباني المزدوج بشأن تدبير القضايا والعلاقات الثنائية والإقليمية؟! أهو عدم انتباه الجارة الشمالية إلى ذلك التغيير والتغير الذي بات يسري أمرا واقعا بمحيطها إقليميا وقاريا؟! أهو ذلك الحنين المزمن لعقلية استعمارية تعيش على ضعف الآخر بالضرورة؟!

أسئلة استنكارية قد تغني عن أخرى، في محاولة فهم التناقض الذي طالما طبع ولا يزال سلوك إسبانيا، وخطابها ومواقفها وسياستها إزاء المغرب، وفهم سقوطها الطوعي في شرك أقلية أوليغارشية توجد ما وراء الحدود الشرقية للمغرب، أقلية تقتات على بقايا إيديولوجيا بائدة، بما تنطوي عليه من خبث ونفاق وتزوير وبهتان.

هو تيه سياسي إذن، واندحار دبلوماسي يكرس شرود مدريد وزيغها عن قواعد حسن الجوار، وخروجها المتكرر عن النص، عن السياق الإقليمي والدولي المستجد، ويفضح عجزها عن الاختيار: إما المغرب كشريك استراتيجي تتحقق معه الكثير من مصالحها، أو غيره كبديل، حتى ولو كان هذا البديل أقلية أوليغارشية. فقط التحلي بشجاعة الاختيار.

ولعل ما يجسد هذا التخبط وهذا العجز هو استمرار إسبانيا، حتى في عز الهزات الارتدادية لسلوكها الأرعن باستقبالها لهارب من عدالتها، في الحديث عن صداقة مزعومة مع المغرب، وهي التي لم تقاوم غواية "معاكسة المغرب"، التي أغراها بها جنرالات الجزائر، وسقطت في شرك ألاعيبهم.

والغريب في المشهد السريالي الذي رسمته إسبانيا لنفسها باستقبالها لبن بطوش، هو أنها خرجت من جلباب البلد الأوروبي الديمقراطي الذي لا يرضى لنفسه لومة لائم قد تخدش صورته كدولة حق وقانون، وسارت على نهج الجزائر، بلد يعاني من حساسية مفرطة تجاه الديمقراطية، يعادي البناء ويهوى الهدم... هدم كل ما يطوله معوله.. حتى ولو كان البناء المغاربي، حتى ولو كانت صورة إسبانيا أمام العالم، ومصالحها الاستراتيجية مع بلد جار.

أي نعم، إسبانيا آثرت الرقص رقص الجزائر، رقص الديك المذبوح، الذي يحاول الهروب إلى الأمام، إلى حيث كان، فقط ليفر من الأمر الواقع، والواقع هنا، بالنسبة لإسبانيا وللجزائر، هو مغرب يتقدم ويتعاون، مع من أراد، مغرب لا يلتفت كثيرا.. حتى لا يتأخر في الوصول، مغرب عرف ويعرف كيف يحقق مصالحه المشروعة ويفرض نفسه كشريك موثوق به لدى دول وتكتلات في مختلف أركان المعمور. الواقع لا يرتفع.

على إسبانيا أن تقرن القول بالفعل حينما تزعم أنها تدرك قيمة المغرب كشريك استراتيجي لا محيد عنه.. أن تنظر إلى طبيعة العلاقة مع المغرب بعدسة الواقع.. أن تقطع مع رواسب العقد التاريخية التي حكمت ولازالت أفعالها وأقوالها تجاه المغرب والمغاربة.

في واقع الأمر، من حظ إسبانيا أنها تشاطر المغرب مشتركا تاريخيا وإنسانيا، ومن قدرها أنها تتقاسم معه تحديات لا تقل عن مواجهة الجريمة المنظمة ومكافحة الهجرة غير الشرعية والإرهاب، ورهانات التعاون والتنمية المشتركة. تحديات ورهانات أهم وأكبر من جميع العقد التاريخية، التليدة منها والحديثة، التي قد تكبل فكر وتفكير الطبقة السياسية الإسبانية إلى اليوم، وتجعلها حبيسة نظرة نمطية لبلد جار، وتصور خاطئ ومتجاوز لما يجب أن يكون عليه هذا الجار بالضرورة: جار ضعيف وطيع.

إن المغرب القوي ليس تهديدا ولا ترفا بالنسبة لإسبانيا، بل ضرورة وحتمية لا مناص منها. فقط ينقص أن يكابر البلد الإيبيري كي يستسيغ التغير الحاصل، تغير المعطيات والسياقات، جيوسياسيا واقتصاديا ومجتمعيا، ليفهم آنذاك أن المراهنة على المغرب الضعيف ستجعل إسبانيا تتخلف عن الركب، ركب البلدان والقوى التي أدركت مبكرا الطابع الاستراتيجي للمملكة، ودورها، وثقلها، ومصداقيتها وصدقية خطابها ومبادراتها. الخير في المغرب، شر لابد منه لإسبانيا!