BAB: كيف كانت بدايات أبو سلمى؟
عبد القادر وساط (أبو سلمى): بعد التحاقي بكلية الطب بالدار البيضاء، كنت أبعث قصائدي بانتظام لجريدة المحرر، التي كانت تخصص صفحة أسبوعية لأدب الشباب. فلما توقفت المحرر، وصدرت بعدها جريدة الاتحاد الاشتراكي صرت أنشر نصوصي الشعرية (نصوص البدايات) في هذه الجريدة، ثم صرت أنشر محاولات في الترجمة كذلك، بكيفية منتظمة، وكان من الطبيعي أن أزور مقر الجريدة يوما ما، وذلك ما فعلته وأنا طالب صغير السن، ثم تكررت الزيارات وتمتنت العلاقة مع أعضاء هيئة التحرير، إلى أن صرت واحدا منهم. ولاحظ المدير يوما خلو الجريدة من الكلمات المتقاطعة، فتطوعتُ أنا لملء ذلك الفراغ. دفعني إلى ذلك حبي الشديد للغة العربية وولعي بكلماتها ومفرداتها وكذلك مواكبتي لتجارب الفرنسيين في هذا المجال، وخاصة منهم الأديب المشهور جورج بيريك والأديب الصحافي تريستان بيرنار وآخرين. وقد تعلمت منهم أن الكلمات المتقاطعة لا ينبغي أن تقتصر على التعاريف المستمدة من المعاجم، ولكنها تنبني على تعاريف موجهة لذكاء القارئ. في البداية، حاولتُ أن أقلد هؤلاء الكبار وأن أسير على نهجهم، فيما كنت أعده من شبكات. أذكر من تلك التعاريف:
- لا بدّ منه لكلِّ حي (المقدَّم.)
- بين الرجل والمرأة (الواو.)
- أداةُ عطف (القلب.)
- حصة الأسد (سوريا.)
- إنسان سرعان ما يغرق في الدموع (بؤبؤ)...
وقد لاقت تلك الطريقة إقبالا جيدا لدى القراء، مما شجعني على الاستمرار. ولما لاحظتُ انتشار الكلمات المُسَهَّمة في الصحف والمجلات الأروبية، عنّ لي أن أخوض التجربة باللغة العربية. وقد استمرَرْتُ بالطريقة نفسها، طريقة التعاريف المبتكرة والساخرة. وبما أن الحيز الذي تتيحه لك شبكة الكلمات المسهمة لا يتسع لجمل طويلة-خلافا للكلمات المتقاطعة-فلا بد من تعريف قصير، يُكتب داخل الخانة المخصصة لذلك. وهذه صعوبة إضافية ولكنها تحفزك من أجل الإيجاز والتركيز. والحق أني لم أكن أتصور بتاتا ذلك الإقبال الشديد الذي ستلقاه هذه التجربة عند القراء. لقد كان إقبالا رائعا بكل ما في الكلمة من معنى. وهو ما شجعني على الاستمرار، مع التركيز-كما أسلفت- على تعاريف وجيزة في ثلاث أو أربع كلمات لا أكثر. وأذكر من تعاريف تلك الفترة:
-مشهود له بالبراءة (مخترع)
-لا يتنافى مع الحديث (المغزل)
-يضمن حقوق النشر (السطح)
-مصدر غبار في جميع الفصول (الطباشير)
-ابْنُ الجبل (الفأر)...
بيد أن عملي في الصحافة لم يقتصر على الكلمات المسهمة، إذ كنت أعد أيضا صفحة طبية أسبوعية، الأمر الذي شجعني لاحقا على تأليف موسوعة طبية في ثمانية مجلدات. وفي الوقت نفسه، واظبت على نشر قصائدي بانتظام وكذلك نصوصي النثرية (القصص القصيرة) والكثير من الترجمات الشعرية (التي جمعتها مؤخرا في كتاب بعنوان:" رأسي فندق للشعراء")
في اليوم العالمي للغة العربية، كيف يصف أبوسلمى هذه اللغة؟
العربية لغة رائعة، لكن جزءا كبيرا من أبنائها لا يقدرونها حق قدرها. فهم لا يبذلون الجهد الضروري للإلمام بقواعدها وللإحاطة بخفاياها والاطلاع على كنوزها. وهكذا نجد أن كثيرا من "الأدباء"، في زمننا هذا، يرتكبون أخطاء نحوية وإملائية كثيرة فيما يكتبون وينشرون. فهم يجهلون حتى قواعد المثنى والجمع. وهناك دُور نشر كثيرة تنشر ما يكتبه هؤلاء دون تصحيح! يضاف إلى ذلك الإساءات الكثيرة التي تلحق هذه اللغة الجميلة جراء الترجمة والمترجمين المتسرعين. هكذا نقرأ عبارات مثل (مطاردات الساحرات) أو (عبور القفار) أو (بين الكلب والذئب)، إلى غير ذلك من الترجمات الحرفية لعبارات لها معنى خاص في لغاتها الأصلية، لكنها لا تعني شيئا في العربية. وقبل أيام، كنت أقرأ ترجمة لرواية فرنسية، فعثرت على هذه العبارة (بعد ثلاثة أيام من العمل لم يَخرج الوليد إلى الدنيا!) فمن الواضح أن المقصود هنا ليس (العمل) لكنه (المخاض)، لكن المترجم لم يفطن إلى أن كلمة travail تعني المخاض أيضا في اللغة الفرنسية! إن هذه العبارات تسيئ للنص الأصلي طبعا، لكنها تسيء كذلك للغة العربية بترسيخ وتكريس عبارات كهذه.
يضاف إلى هذا أن الكثيرين يجعلون من اللغة العربية موضوعا للسخرية، وهناك بعض (المسرحيات) نشاهد فيها ممثلا يتكلم الفصحى لإضحاك المشاهدين!!
هل أمضيتم فترة الحجر الصحي في إعداد الشبكات؟
أنا أحب إعداد الشبكات وأقضي معها وقتا ممتعا، حين يكون مزاجي رائقا، لكن نشاطي لا ينحصر في إعداد الشبكات، بطبيعة الحال، رغم ما تتطلبه هذه الشبكات من وقت وجهد. ثم إن مهنتي الطبية تتطلب الوقت الضروري هي أيضا، بما في ذلك من تكوين مستمر. وخلال فترة الحجر هذه، قمت بإعداد ثلاثة كتب للنشر، منها مجموعتان قصصيتان صدرتا عن دار أثر، بالمملكة العربية السعودية( وهما: "النمر العاشب" و"عينان واسعتان") وهناك مجموعة ثالثة جاهزة للنشر هي أيضا، والحياة تستمر رغم الجائحة ورغم الحجر.
هل تعلن نهاية الورق عن نهاية الشبكة؟ أم أنها قد تتأقلم مع العالم الرقمي؟
أنا لا أرى ان نهاية الورق قد أزفت. لا أظن ذلك. لا الكتاب الورقي سيندثر ولا المجلات ولا الصحف الورقية. إنما مشكلتنا الحقيقية في المغرب وباقي البلاد العربية أننا لا نقرأ. الكتاب كاسد ليس بسبب التحولات الرقمية، وإنما بسبب عزوف الناس عن القراءة وعن شراء الكتب. الكثيرون يشترون علبة سجائر يوميا بما يقارب خمسين درهما، لكنهم لا يستطيعون شراء كتاب بالثمن نفسه. وهناك كتّاب كثيرون ينتظرون أن يهدي إليهم أصدقاؤهم نسخا من منشوراتهم، عوض شرائها من المكتبات! وقل الشيء نفسه عن المجلات والصحف. والعديد من محبي الشبكة يبادرون إلى استنساخها بواسطة الفوتوكوبي، عوض شراء الجريدة، لهذا يبدو لي أن الثورة الرقمية لا تعرقل انتشار الكلمات المتقاطعة والكلمات المسهمة، بل إنها تسهل انتشارها، شرط أن نتعامل باحترام مع حقوق الملكية الفكرية.
ما هي إيجابيات أو مزايا الكلمات المتقاطعة أو الكلمات المسهمة لدى المولعين بها؟
هناك إيجابيات أكدها الطب الحديث، منها أن المداومة على حل الكلمات المسهمة والمتقاطعة تشكل وقاية جيدة من مرض آلزهايمر. وهذا أمر طبيعي، لأن الشبكة الجيدة تتطلب مجهودا فكريا لا يستهان به لإيجاد الحلول المطلوبة. إن العضو الذي لا يشتغل بانتظام ينتهي به الأمر إلى الضمور، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على الدماغ، ولا شك أن حل الكلمات المتقاطعة يمثل نشاطا جيدا لهذا العضو النبيل.
وقبل أسابيع قرأت حوارا مع الكاتب النمساوي بيتر هاندكه، يحكي فيه أن من أجمل متعه الصباحية، متعة الكلمات المسهمة، وذكرَ اسم الجريدة الألمانيةالتي يداوم على شبكاتها، نظرا لما تتميز به تلك الشبكات بالذات من استعصاء!
إن العضو الذي لا يشتغل بانتظام ينتهي به الأمر إلى الضمور، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على الدماغ، ولا شك أن حل الكلمات المتقاطعة بكيفية منتظمة، يمثل نشاطا جيدا لهذا العضو النبيل.
ومن مزايا هذه الشبكات، في أوساطنا، أنها تحبب اللغة للقراء وتساعد في ذيوع مفردات عديدة من مفردات لغتنا الجميلة. شخصيا، أشعر بانشراح غامر حين أرى ثلاثة أو أربعة أشخاص متحلقين في المقهى حول شبكة، يتناقشون أو يتجادلون حول كلمة معينة، أو حول تعريف معين. وقبل فترة، كان قبالتي في القطار رجل وامرأة يبحثان عن حل للتعريف التالي (جنْسٌ من الطير في قَلبه عَجب) فلما فطنا إلى أن الكلمة المقصودة هي (بَجَع) قرأت في نظراتهما علامات الاستحسان وسرني ذلك غاية السرور.
لكن، ألا تستطيع الأجهزة الذكية أن تنجز الكلمات المتقاطعة؟
ذلك في رأيي أمر مستحيل. قد يستطيع الجهاز الذكي أن ينتج شبكة مبنية على التعاريف الجاهزة في المعاجم، إذا نحن ملأنا ذاكرته بهذه التعاريف، لكنه سينتج في هذه الحالة شبكة باردة، لا ماء فيها كما يقول القدماء. الجهاز الذكي ليست له حياة وجدانية ولا تجربة حياتية متميزة، حتى يَكون قادرا على ابتكار تعاريف ساخرة، مستمدة من الحياة اليومية ومن المعيش اليومي. ما يمكنني الجزم به هو أن الذكاء الإلكتروني لن يتفوق في الغد القريب على الذكاء البشري.