
كيف تبحث عن أسطورتك الذاتية؟، أو بالأحرى كيف تصنع تاريخك الخاص وتاريخ محيطك؟، وكيف تحقق في التصور والفعل حلمك الخاص، إذ لا روح لحياة يغيب عنها الحلم؟، ثم كيف بمقدورك فوق هذا وذاك أن تنفلت بتصميم ثابت من دائرة الأمان والطمأنينة، التي عادة ما يمثلها واقع حياتك الرتيبة الشحيحة المضمون والدلالات، في كثير من الأحيان، لتنخرط في البحث عن آفاق أكثر غنى، مع ما قد يرافق ذلك من تضحيات، وما قد يكتنفه من مخاطر، أدناها فشل المسعى وأقصاها الموت دونه...؟
هذا السؤال الوجودي الملح، والذي نتقاسم جميعا هيبة الانخراط في معالجته على الصعيد الفردي وأيضا الجماعي عبر أصعدة قد تتفاوت ما بين وطنية وقومية وعالمية، والتي باتت تلح بحدة اليوم على كل ذي لُبٍّ فَطِنٍ، هو ما يحرك بشكل واضح غائية البناء السردي لرواية "الخيميائي"، ثاني عمل روائي ضمن سلسلة أعمال ناجحة تضع مبدعها الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويهلو، بحسب كثير من النقاد، على عتبة صف المتنافسين على جائزة نوبل للآداب.
تمثل هذه الرواية، التي ترجمت الى 80 لغة وحظيت بعدة ترجمات في اللغة العربية، محطة مركزية في الانشغالات الفكرية والإبداعية لكاتب أتى الى عالم الرواية من عوالم المسرح ومنعطفات الشعر الغنائي الشعبي.
المحاور المركزية لحركية السرد
تكشف الرواية وبإصرار عن تَوْقِ الكاتب إلى التأسيس للغة المُمْكِن في نيل المعرفة الكلية وتحقيق أسطورة الذات وأحلامها برؤية يطغى عليها النَّفَسُ الصوفي. وتُحفِّزُ بإشارات كثيرة بصيرة المتلقي على اكتشاف غنى الدلالات في ذاته والكون من حوله. وتدعوه أيضا الى الضَّرْبِ صفحا على لغة الاستسلام لما هو كائن، والتَّيَقُّنِ من قدرة الفرد على صناعة تاريخه الخاص. وتَحُثُّهُ على الاستماع أثناء هذه المسيرة غير السهلة والكثيرة المنعطفات الى حُدوسِه الداخلية وإلى الطبيعة المحيطة به، وإرهاف الحِسِّ، خلال مخاض بحثه وتَقصيه، لالتقاط كل ما يَنْضَحُ عن الكون من إشراقات معرفية.
وفي ضوء ذلك كله تغدو قراءة هذا العمل رحلة ممتعة للبحث في حقيقة الذات والوجود وكُنْهِ وملابسات عدد من التّصوّرات التي تدور في فلك معاني "الفقد، والأمل، والاستبسال، والقدرة على الفعل، والممكن والمستحيل، والتواصل بالذات والآخر، والجمال، والحب، وإرادة الحياة وغيرها...
وعلى هذا النحو أيضا تمثل رواية "الخيميائي" مطية فنية وفكرية لترويض المتلقي على اكتشاف قدراته الكامنة، وتحفيز مخيلته وفكره لخوض تساؤلات تدور في فلك هذه المعاني وقد تغنيها وفقا للخصوصيات المفارقة.
وتحقيقا لهذا الكشف المتعدد الأبعاد والدلالات، يُخْضِعُ السّارِدُ بَطَلَ روايتِه لتجربة المرور عبر محطات قد تأتي متفرقة حينا ودُفْعَةً واحدة أحيانا أخرى، لكن نتائجها، وإن كانت في حقيقتها ممكنة وطَوْعِ اليد بإعمال الفكر والتمحيص، تبدو كَغَزَواتٍ غير متوقعة، وغالبا ما يُفْضِي بعضُها الى الآخر، بل وقد تستحيل في النهاية الى وسائل وأدوات للفعل وأوكسجين لحياة الشخوص وحركيّة التّدافُع السّردي.
بطل الرواية ورحلة البحث عن الحقيقة (المعرفة)
أدرك بطل الرواية سانتياغو مُبكّرا أن جدران الدّير، حيث كان أبوه يُعِدُّه ليصير قسيسا، ضيقة للغاية بل خانقة لتَبَرْعُمِ وخصوبة روحه وفكره، وذلك على الرغم مما لهذا المنصب من وجاهة داخل مجتمع قروي مُنْغلق.
وفي المقابل، أيقن بداهة أن رحابة العالم الخارجي هي منبعُ كل المكاسب الروحية والفكرية والمادية، وأن تجربة المعيش ثريّة بالمعاني والدلالات، واكتشافِ تفاصيلها وإدراك غناها يستحق المعاناة والجهد المبذول لقاءها، كما هو أمر الغائِص في عمق المياه بحثا عن الصَّدَف، ما إن يَشْرَع في عَدِّ كنوز ما استخلصه حتى يَذْهَلَ عمَّا قاساه من مِحَنٍ دُونَها. هذه القناعة المبكرة هي التي جعلته يُحْجِمُ عن مجاراة رغبة والده الأولى في أن يكون رجل دين، ليَتَّجِه بوصية ثانية منه مرة أخرى إلى راعي غنم حتى يتسنى له، وفق ما حدَّثه والده، التِّجْوال في شتى الأمكنة، وإدراك كُنْهِ العالم من خلال تَجلِّياتِه وهي في عنفوان عَفْوِيَتِها.
وبالنتيجة فإن تنقل سانتياغو بين قرى ومدن منطقة الأندلس، وبحثه عن لقمة عيشه من خلال كسب يديه، وإنصاته للطبيعة ومناجاتها وكأنها شاخِصَةٌ إليه تُبادِلُه الحديث بنفس مَنْطِقِه، فيما هو مرهف الحس لِالْتقاط أدقّ أصواتها وكافة تفاصيلها مهما صَغُرَت، لن يكون إلا بحثا عن أسطورته الذاتية، أي عن تحقيقه لحلمه وتوسيع مداركه واقتناص المعرفة الحقة.
وبالقدر الذي كان يواظب فيه على قراءة إشارات الطبيعة في غناها، كانت الكتب رفقته الغالية ومأواه الظليل وارتواءه العذب حين يشتد به الحنين الى الآخر.
وبلغة المجاز، تمثلت أسطورة سانتياغو الذاتية في كنز مرصود أخْبَرته إحدى قارئات الكف من الغجريات، أنه مدفون عند قدم إحدى الأهرامات المصرية على بعد آلاف الأميال من موطنه الأصلي، وأن انفكاك طلاسم انغلاقه ينتظر مَقْدَمَه ولن يكون إلا على يديه.
وفي النهاية وبعد كثير من المحن والتجارب، ينكشف لبطل الرواية أن البحث المضني عن الكنز ما هو إلا محض بحث عن الذات التي هي السبيل لبلوغ المعرفة، وأن تَجَشّم مشاق السفر لم تكن إلا وسيلة لجمع الإشارات الكافية التي ستَدلُّهُ في النهاية الى أن الكنز كان دوما على مقربة من مرعى أغنامه بمنطقة الأندلس، وأن الرحلة كانت تجميعا لقطع "البازل" ولولاها لظل الكنز قابعا تحت رجليه وقوائم أغنامه، وبقي بالتالي حبيس دائرة طمأنينة ما تفرضه رتابة حياته ومحدودية تجاربِه.
وما كانت تجربة سانتياغو، وهو يواجه المجهول، ويكتشف زوايا من ذاته مع كل انعطافة، ويَسْبِرُ جوانب من الأسس المحركة للحياة، ويستوعب مع كل خطوة بعضا من أسرارها، إلا لترسخ لديه وجوب احترام قوانين الطبيعة وتصرف القدر، الذي ما كان يملك إزاءه دائما وأبدا إلا الانحناء بإكبار وهيبة وحب عميق للقوة العليا المحركة النافذ حكمها.
وفي المحصلة لن تكون تلك التجربة، بما تحمله من مجاز عميق الدلالات، إلا صورة من تلك التجارب التي يمر بها كل واحد منا يوميا، على تفاوت طبعا في الحجم والعمق والخلاصة.
ومن خلال هذه التجربة أو الرحلة-المخاض يبرز العمل كمحك حقيقي لتجريب مدى اقتدار الذات على تغيير محيطها، وأحد أعلى مراتب تواصلها بالعالم الخارجي والتأثير فيه، فيما يجسد السفر بامتياز لغة التواصل بالأمكنة والناس وزاد الحياة الحقيقي وماءها المتجدد الفياض.
وتأتي مطالعة الكتب وتأمل الطبيعة والإنصات الى مختلف الرسائل المبثوثة في ثنايا كل منها، كمحفزات لمواصلة البحث عن كنه الذات ومصيرها في هذه الحياة، والمثابرة على إعادة الكرة وإن توالى الفشل وخيّمت الظُّلَمُ وتَسَلَّل القهر الى النفس، لأن الفرج، برأي السارد، يقبع دائما على مرمى أبصارنا، ف"أشد ساعات اليوم ظلمة هي تلك التي تسبق الفجر".
وتعضيدا لهذه المعاني جميعها يحمل عنوان "الخيميائي" إحالة جد مركزة وقوية الدلالة إلى أهمية الإيمان بالله وبقدرة الإنسان على تغيير نفسه نحو الأجدى وتغيير واقعه عبر التصور "الحلم" ثم العمل، وجوهرية تحصيله للمعارف بأنواعها وإنصاته للعالم من حوله وتفطنه لتلك الرسائل والإشراقات الربانية واستيعابه بالنتيجة لمغزى وجوده ومآله.
ووفق هذا المعنى تُقَدِّمُ الروايةُ الشّخصَ المنسوبة اليه صفة "الخيميائي" في صورة رجل مُتَيَّمٍ بالمعرفة، لا يفتر يبحث عنها أينما حَلَّ وارتحل، لا تقف دون رغبتِه حدودٌ أو موانع. ولا يكتفي منها بما يُفرِزُه التجريب والحواس المادية، وإنما يَرْكُنُ وبنفس القوة الى حدوسه يطاوعها حيث تقوده ويُسلِّمُها ثِقتَه، وبداخله إيمانٌ ثابتٌ بوجود قدرة عليا مدبرة ترعى الكون وتحيطه بِدأبِها، وأيضا يقينٌ راسخٌ بقدرته هو، عبر الاجتهاد والمكابدة الى جانب ما له من مواهب خاصة، على الفعل فيها وتغييرها على نحو من الأنحاء.
ما معنى أن تبحث عن أسطورتك الذاتية؟
أن تبحث عن أسطورتك الذاتية، حسب الرواية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، ليس شيئا آخر غير أن تنطلق في رحلة بحث معرفي وإنتاجي، وفق قاعدة ذهبية ثلاثية المحاور، مستهلها الذات ومسراها الآخر والمحيط ومنتهاها الذات التي تصبح التجميع والخلاصة لهذا التنقل وأحد مصادر هذه الأسطورة، إن لم يكن مصدرها الحقيقي وفق مقولة "وفيك انطوى العالم الأكبر".
وتماشيا مع هذه الخطاطة فلن يكون البحث عن الأسطورة الذاتية محض تمضية مجانية للوقت، أو مجرد صدفة بل جوهر وجود هذه الذات. ومن ثمة فلن ينفك عن كونه الهدف والمغزى.
ووفقا لهذا التوجه، يَبُثُّ السارد في يقين بطل الرواية عن طريق إحدى الشخصيات الحكيمة، الموَظَّفة أساسا لمساعدته على الفعل، أن الانتقال الى دائرة الحلم، الذي يمثل استباقا لرسم معالم المستقبل وليس تصورات غفوة أو منام، لن يكون في جميع الأحوال إلا بإيعاز ومباركة تامة من محيطه الخارجي، في إطار ذلك الحوار الذي لا بد أن يكون متواصلا بين الداخل والخارج.
وهو ذات المعنى الذي أومأت إليه إحدى شخصيات الرواية حين خاطبت البطل في إحدى المحطات المفصلية لتنامي السرد قائلة له: "إذا حَلُمْتَ بشيء وعملت من أجله بجرأة فإن كل العالم سيُطاوِعُك لتحقيقه ولِيُحَوِّلَ كلَّ تلك العلامات والمكتسبات إلى طاقة روحية وخبرات حسّية تستحق بموجبها مرقى الآدمية".
على هذا النحو، ومنذ الوهلة الأولى التي تطلق فيها العنان لفكرك ومُتَخَيَّلِك داخل عوالم "الخيميائي"، تهاجمك المعاني طيّعة، تحملُها إليك، دون تحذلق، بساطةُ توْليفِ الحدثِ وسلاسة توالي الحكْيِ وتناميه. ومن ثمة يقع في يقينك أنك بإزاء رسالة تتبدى لك معالمُها الأساسية منذ الفقرات الأولى، بينما تأتي متتاليات السرد لتُحدِّد نُضجَها وتكامُلها.
وبتوالي الغوص في هذه العوالم تتواصل رحلةُ الكشف، التي هي في نفس الوقت، مسار للتأمل في الذات (القارئة) وتجاربها وإمكاناتها، وتحفيز لهذه الذات على استحضار الخيارات الأخرى التي كانت في الغالب مُغيَّبة عنها.
وبهذا المعنى، يصبح المسير شبيها بطقوس سلسلة من حلقات التنمية الذاتية التي تُبَئِّرُ على قدرات الذات على صناعة واقع معيشها ومستقبلها كيفما كانت الظروف، وفق قناعة مفادها بأنه يكفي مبدئيا أن يُحسِن الفردُ ارتياد خرائط ذاته بالشكل الصحيح وفي الوقت المناسب، ويتَفطَّنَ لحدوسه الداخلية ولإشارات الكون من حوله لِتَنْهالَ عليه المعرفة ولِيتغيّرَ وضْعُهُ من حال الى آخر أفضل.
وبدل أن يكون القارئ مجرد شخص مفارق للتجارب المسرودة ينظر إليها من خلال واجهات لغوية وقيمية، يصير في قلب رؤية السارد الروحية والفنية والفكرية.
ويغدو الحكي، بما يتضمنه من جولات تأملية مكثفة ومكتنزة بالأسئلة الوجودية المُفْضِية في الغالب الى خلاصات تَنْهلُ في الأصل من رحيق التجربة الحياتية الغنية للروائي، دعوة تملك ضمانات الاستجابة من قبل المتلقي للانخراط في هذه العوالم وتأثيث موقع ما ضمنها، والالتفات منها الى مساءلة الذات وبحث الاحتمالات المُغيبة، والانتباه الى دقائق انفلتت من دائرة الرّؤية في زُحْمَة وضجيج الحياة اليومية.
ذلك، برأي باولو كويهلو، هو قَدَرُ الإنسان الجدير بهذه التسمية، والذي لن يتسنى له إنقاذَ إنسانيته إلا بالإيمان والحلم والأمل وكذا العمل والمثابرة والإصرار على تحقيق أسطورته الذاتية أو الرسالة التي خُلِق من أجلها مهما اشتدت وعصفت به النوائب.