
"طالبان تدخل القصر الرئاسي"، كان هذا هو الخبر الرئيس لمنتصف غشت الماضي ومعه دخل اسم "طالبان"، مرة أخرى، إلى كل البيوت وبكل لغات العالم. إنه حدث يطوي عشرين سنة من الزمن تقريبا، وكأن الأمر كان يتعلق بفاصل "أمريكي" في فيلم أفغاني عنوانه حرب دائمة من أجل السيطرة على بلاد استعصت على الأجنبي وعلى توافق أبنائها أيضا.
قبل عشرين سنة تقريبا تردد اسم طالبان أيضا في نشرات الأخبار، وكان الخبر هو خروجها من كابول على يد القوات الأمريكية، ليبدو الأمر بعد عقدين وكأنه تبادل لدوري الخروج والدخول إلى العاصمة، بين قوة عظمى وحركة ظهرت فجأة في منتصف التسعينيات وظل الغموض يلف منشأها كما يلف بروزها وتواريها على حد سواء.
بدأ اسم "طالبان" يعود إلى الواجهة تدريجيا منذ ثلاثة أشهر تقريبا، وبدا الأمر وكأن الحركة بعثت لتعيش حياة ثانية عقب إعلان أمريكا عن انسحابها من "مقبرة الامبراطوريات" فاتحة الباب أمام طلبة المدارس القرآنية (طالبان) لإقامة "إمارتهم الثانية" بعد "إمارة أولى" أعلنوها أيضا بعد بضع سنوات من انسحاب القوات السوفياتية من حرب لعبت دورا كبيرا في انهيار الحزب الشيوعي في موسكو.
من تكون حركة طالبان؟ وكيف تحولت من وجهة نظر الولايات المتحدة وحلفائها وأتباعها، وفي اقل من 18 سنة، من عدو وجب القضاء عليه إلى حركة يمكن التفاوض معها، بل ورسم ملامح مستقبل تكون فيه جزءا من الحكم في أفغانستان وربما الحكم كله؟ وهل مازال الأمر يتعلق، كما راج، بحركة محافظة ومعزولة في جبال افغانستان أم بحركة أصبحت تتقن التكتيك والاستراتيجية والتواصل وتلعب بشكل جيد على كل التناقضات، وهي كثيرة بين بلدان الجوار الجغرافي والعسكري؟ وهل طالبان 2021 هي نفسها طالبان التي آوت أسامة بن لادن وغامرت بحكمها وفاء له؟ وهل ستكون "الإمارة الإسلامية" الثانية التي تعهدت الحركة بإقامتها بنفس ملامح "الإمارة الأولى"؟
من المدارس القرآنية إلى إعلان إمارة إسلامية
كل شيء يتعلق بحركة طالبان يحتمل أكثر من وجه، وأكثر من قراءة وأغلب ما كتب عن الحركة، كتب باعتباره الأرجح أو الأكثر تداولا، فيما تغيب حتى الآن حقائق كثيرة عن ظهور الحركة في بداية التسعينيات، وصعودها السريع وقدرتها على هزم مجموعات المجاهدين الأفغان الذين طردوا السوفييت من البلاد. كما تهيمن الصور الكاريكاتورية التي روجت عن "طلبة المدارس القرآنية" أكثر من المعطيات؛ باعتبار أن الحرب على أفغانستان في 2001، وككل الحروب، كانت حربا إعلامية أيضا.
ظهرت حركة طالبان في المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان حيث وجد طلبة المدارس الدينية السنة في هذه المناطق ملاذا آمنا من هجمات السوفييت بداية، ثم من فوضى تطاحنات المجاهدين بعد ذلك. ويعود ظهور الحركة كتنظيم إلى مطلع التسعينيات حيث تشكل على يد الملا محمد عمر، الذي سيحقق أول انتصاراته العسكرية بالدخول إلى عاصمة إقليم قندهار يوم 3 أكتوبر 1994 ليصل بعد سنتين فقط، أي في 27 شتنبر 1996، إلى العاصمة كابول التي سيعلن فيها قيام "إمارة أفغانستان الإسلامية".
رأت الحركة النور في مناطق الباشتون الإثنية الأهم في البلاد (يتميز أفغانستان بتنوع عرقي كبير حيث يضم أيضا الطاجيك والهزارة والأوزبك والتركمان والأيمك..") وهو ما يشكل نقطة قوة للحركة باعتبار الوعاء الإثني الكبير والمسيطر تاريخيا، وأيضا نقطة ضعف خصوصا في مناطق الإثنيات الأخرى.
سيسمع كثيرون باسم حركة طالبان لأول مرة في مارس 2001 عندما أقدم مسلحو الحركة على تفجير تمثالي بوذا في وادي باميان، غير أن الحركة ستدخل دائرة الضوء بشكل أكبر بعد بضعة أشهر فقط، وبعد تفجير أضخم تبناه تنظيم القاعدة: تفجيرات 11 شتنبر 2001 في الولايات المتحدة.
فحركة طالبان التي كانت تسيطر على البلاد، كانت توفر ملاذا أو على الأقل لم تقبل بطرد قيادات تنظيم القاعدة، ومن ثمة كانت الحركة ومعها أفغانستان الهدف الأول ل"رد" أمريكا الجريحة، على استهداف برجي مبنى التجارة العالمي الذي شكل ثاني هجوم تتعرض له البلاد (منذ قيامها) من الخارج (بعد هجوم شنته اليابان سنة 1941 على قاعدة بيرل هاربر العسكرية في هاواي).
وبالفعل وبعد فترة قصيرة، ستتمكن القوات الأمريكية من دخول كابول لتنكفئ طالبان أو ما تبقى منها في الجبال والمناطق الحدودية مع باكستان وليختفي اسمها شيئا فشيئا في نشرات الأخبار حيث أصبح التركيز، بالخصوص، على الحكومة الجديدة التي تشكلت ضمن الوعود الأمريكية ببناء أفغانستان جديدة مستقرة وحليفة للغرب.
ظل هناك سؤال واحد يستحوذ على الاهتمام عند التطرق إلى حركة طالبان مباشرة بعد الاجتياح الأمريكي لأفغانستان، وهو ذلك المتعلق بمصير قائدها الملا عمر. لم يظهر قائد طالبان علانية وعدد الصور التي تروج عنه لا تتجاوز ثلاثة على الأكثر، إحداها تعود لفترة شبابه، لذلك لم يكن من الصعب على طالبان أن تخفي نبأ مقتله لأزيد من سنتين قبل أن تعلنه في غشت 2015.
وبعد شهر من إعلان وفاة الزعيم المؤسس، ستعلن الحركة عن توحدها تحت قيادة الملا أختر محمد منصور الذي كان نائبا للملا الراحل لفترة طويلة، والذي سيقُتل في غارة أمريكية بطائرة بدون طيار في 22 من ماي 2016. وإذا كان الملا عمر والملا محمد منصور قد قاتلا قوات التحالف الأمريكي حتى الموت، فإن هبة الله أخوند زاده، الذي تولى زعامة الحركة في 26 ماي 2016، بعد أن تم تعيينه في هذا المنصب من قبل مجلس شورى الحركة، سيكون أول زعيم لطالبان سيقبل بالتفاوض العلني مع الأمريكان.
ومما يعرف عن القائد الجديد للحركة أنه عمل رئيساً لمحكمة عسكرية في كابول تحت حكم مؤسس طالبان وزعيمها الروحي الملا عمر. وقد بقي في الظل تماما مع أنه كرجل دين يتمتع بحضور قوي وتأثير داخل الحركة
.
وينحدر أخوند زاده كباقي قادة الحركة من قندهار معقل البشتون جنوب أفغانستان، وكان من اللافت أن أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة بايعه فور تنصيبه زعيما ل"طالبان". وعلى غرار الملا عمر الذي قيل إن دوره كان رمزيا ولكن حاسما في ضمان وحدة الحركة، أكثر منه عمليا في قيادة عملياتها التي لم تتوقف قط، فإن أخوند زاده تولى عقب تنصيبه المهمة نفسها حيث نجح في توحيد طالبان مجددا وتجنيبها تبعات صراع على السلطة بعد وفاة الملا منصور. وعلى غرار قادة الحركة فإن زعيمها الجديد قليل الظهور، وهو يحرص في المقابل على توجيه رسائل في الأعياد الدينية بالخصوص، كما أن المتحدثين باسم الحركة أصبحوا في الآونة الأخيرة أكثر حضورا وانتظاما في التواصل مع الرأي العام في الداخل والخارج.
ومن الأسماء التي تبرز في الحركة حاليا سراج الدين حقاني أحد أبناء جلال الدين حقاني، نجل قائد الجهاد الشهير ضد القوات السوفياتية. يعد حقاني بمثابة الرجل القوي في الحركة، فهو بالخصوص، زعيم شبكة حقاني التي تعتبرها واشنطن تنظيما إرهابيا يمثل التهديد الأبرز للقوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي في البلاد. ويرى مراقبون أن الكفاءة القتالية والعملياتية للشبكة تمثل زخما رئيسيا ضمن حملة طالبان لطرد القوات الأجنبية واستئصال حكومة كابول.
ومن أبرز الشخصيات داخل الحركة عبد الغني برادر، وهو ينحدر أيضا من قندهار، وارتبط اسمه بالخصوص بالمفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أثمرت عن اتفاق سلام وقع في الدوحة. ويعد عبد الغني برادر أحد مؤسسي حركة طالبان مع الملا عمر، ويعتقد أنه قاتل إلى جانبه في 2001 بعد التدخل الأمريكي كما قيل إنه كان جزءا من مجموعة صغيرة كانت تميل لاتفاق يعترفون فيه بإدارة كابول المدعومة أمريكيا، غير أن محاولتهم باءت بالفشل.
ومن اللافت في مسار هذا القيادي أنه اعتقل في 2010 في مدينة كراتشي الباكستانية، غير أن السلطات ستطلق سراحه بضغط من واشنطن (حسب بعض المصادر) التي سيكون لاحقا أحد محاورها الرئيسي باعتباره رئيسا لمكتب طالبان في قطر. وسيكون برادر أحد صناع الاتفاق الذي تمخضت عنه المفاوضات مع الأمريكيين والذي ينص على الخصوص على انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، المطلب الذي لم تقبل الحركة بالتنازل عنه قتالا ومفاوضات.
سلام مع أمريكا المنسحبة وحرب ضد تركتها
في وقت لم يكن فيه أفغانستان في مقدمة أولويات السياسة والإعلام العالميين، أعلن في الدوحة في 29 فبراير 2020 عن توقيع اتفاق سلام بين أمريكا وحركة طالبان في غياب تام لأي ممثل عن الحكومة القائمة في كابول، وهو مؤشر على أن ساسة واشنطن أصبحوا يراهنون بشكل كبير على تفاهمات مع طالبان تحكم أو تشارك بشكل كبير في حكم أفغانستان.
كما أن التوقيع على اتفاق السلام في الدوحة كان مؤشرا أيضا على أن البيت الأبيض دخل في مفاوضات مع الحركة منذ فترة طويلة، وربما أطول مما أعلن عنه، بل إن هناك من يذهب إلى أن انطلاق التفاوض بين طالبان وممثلين عن حكومة كابول في باكستان صيف 2015، كان مجرد غطاء لمفاوضات بين الأمريكان وطالبان.
وينص اتفاق الدوحة، على انسحاب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان في غضون 14 شهرا وإزالة العقوبات الأمريكية عن أفراد طالبان بحلول 27 غشت 2020 وإطلاق سراح ما يصل إلى 5 آلاف سجين من طالبان، وما يصل إلى ألف من سجناء "الطرف الآخر " بحلول 10 مارس 2020.
كما يتضمن اتفاق السلام الشامل، الذي وقع بحضور ممثلي عدد من الدول، ضمانات وآليات تنفيذ تمنع استخدام الأراضي الأفغانية من قبل أي جماعة أو فرد ضد أمن الولايات المتحدة وحلفائها وإعلان جدول زمني لانسحاب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان.
ومع أن الاتفاق يتضمن إطلاق مفاوضات بين طالبان وحكومة كابول إلا أن الجميع كان مقتنعا بأن دور الحكومة الموالية للتحالف سيكون ثانويا في جميع الأحوال، خصوصا في ظل اتهامات بالفساد تلاحق أبرز من تصدروا المشهد في العاصمة منذ اجتياحها من قبل القوات الأمريكية.
أما طالبان فقد كثفت، مباشرة بعد الاتفاق وبدء الانسحاب الأمريكي من البلاد، من هجماتها التي تحولت منذ ماي الماضي إلى حملة لانتزاع ولاية تلو أخرى حتى دخول كابول بدون قتال في سيناريو كان الأقل احتمالا، وبسرعة فاجأت الجميع بمن فيهم الأمريكيين أنفسهم
.
طالبان والأسئلة العالقة
كثيرة هي الأسئلة التي تظل عالقة عند استعراض مسيرة حركة كحركة طالبان؟ أول هذه الأسئلة يتعلق بعلاقة واشنطن بحركة يقال إنها ظهرت في حضن باكستان الحليف المهم لواشنطن منذ الحرب على السوفيات. إن ما يثير الانتباه بالخصوص هو تحول الموقف الأمريكي من الحركة من النقيض إلى النقيض أكثر من مرة.
ففي 1996، وعند دخول قوات طالبان إلى العاصمة كابول بعد هزيمة قوات رباني، علقت الدبلوماسية الأمريكية آنذاك مادلين أولبرايت على الحدث بالقول "إنها خطوة إيجابية"، وفي سنة 2001 ستصبح الحركة العدو الذي يجب تصفيته، وستدخل واشنطن لهذا الغرض أطول حروبها، والتي ستتوج، للمفارقة أيضا، باتفاق مع "طالبان" هو أقرب إلى إعلان عن القبول بقيادة الحركة لأفغانستان من جديد
.
ثاني هذه الأسئلة هو علاقة حركة طالبان بكثير من الأطراف، حدودها وطبيعتها وهدفها. أول هده الأطراف هي باكستان مهد الحركة حيث تشير كثير من المصادر إلى ضلوع المخابرات الباكستانية في نشأة الحركة، وهو ما يعني استمرارها في التأثير بهذا القدر او ذاك في حركتها وقدراتها. كما أصبح السؤال يطرح في الآونة الأخيرة عن مستوى الاتصال بين طالبان وكل من الصين وروسيا والهند وإيران، وعما إذا كان القرار الامريكي بالانسحاب من أفغانستان يجسد، في جانب منه، رغبة أمريكية في توريط خصوم ومنافسين لهم حدود مشتركة مع أفغانستان في " المصيدة" الأفغانية.
أما السؤال الثالث، فيتعلق بالحركة نفسها ومدى قدرتها أو قابليتها لتكون مجرد جزء من تركيبة تحكم أفغانستان عوض أن تكون حاكمة لأفغانستان. وهل ستغير الحركة من نهجها وطرق تصريف شؤون البلاد في حال أمسكت بزمام الأمور فعليا؟، بعبارة أخرى هل تغيرت حركة طالبان بعد عقدين من طردها من كابول، وبعد تعاقب زعيمين على قيادتها خلفا للملا عمر المؤسس؟، وهل سينتصر الجانب البراغماتي الذي قاد الحركة إلى مفاوضات الدوحة مع الأطراف الأفغانية الأخرى؟، أم أن الجانب القتالي الذي منح الحركة وهجها الحالي هو الذي سيحكم مسارها بعد رحيل آخر جندي أجنبي؟